"آخر ما رأيته عندما كنت بعينين اثنتين"
نابلس- كانت ليلة عادية، وكل ما فعله عبد الجبار سقف الحيط في النهار السابق كان عاديا؛ العمل وتصميم بعض المنتجات التجارية وقضاء وقته بين العائلة والعمل.
في نهاية يوم العمل، تلقى دعوة عشاء وجهت له من أحد عملائه، فهو شاب معروف في مجتمع الأعمال المحلي وتربطه علاقات متشعبة مع عدد من الزبائن، فلبى الدعوة واصطحب زوجته وشقيقتها إلى مطعم من مطاعم المدينة؛ نابلس الملتهبة بالنار والدخان والدماء منذ أيام.
في الأيام السابقة، ترددت أنباء كثير في مختلف وسائل إعلام العالم عن الاشتباكات المسلحة في نابلس، ولكن حتى اللحظة في تلك الليلة التي رأى فيها وميض أشعة ليزر تستقر نهايته عند رأسه ونحو مركبته، لم يكن سقف الحيط جزءا من تلك الأخبار.
أما اليوم، جالسا بين عدد من أفراد عائلته من غير أن يدرك الكثير مما دار في تلك اللحظة العصيبة يقول الشاب (31 عاما) "أصبحت بعين واحدة".
وفي ركن من صدر غرفة الجلوس من المنزل، يجلس والداه، يضربان أخماسا بأسداس قلقا على مستقبل ابنهم الصحي الذي مازال يعاني من عدم اتزان في المشي، منذ لحظة تلقيه رصاصة من جيش الاحتلال.
في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، والتي شهدت فيها مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، واحدة من أقسى العمليات الهجومية التي قتل فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي خمسة مواطنين فلسطينيين، وأصابت عددا آخر، أصيب سقف الحيط برصاصة متفجرة اخترقت عينه وتركته بعين واحدة.
وفي أحدث جولة من العلميات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، ظلت نابلس في بؤرة تلك الأحداث، والتي ظهرت فيها مجموعة مقاومة فلسطينية جديدة عرفت بـ "عرين الأسود"، وفي تلك الليلة، بعد وجبة العشاء، وجد سقف الحيط نفسه في بؤرة الحدث ووسط الاشتباكات المسلحة في طريق عودته من دعوة العشاء.
يروى الشاب، انه كان في طريقه إلى منزله في حي رأس العين، وهو حي يقع في سفح جبل جرزيم ويطل على أطراف المدينة، عندما شاهد شابين يقعان على الطريق بعد إطلاق النار عليهما. " كانا يتلويان على الأرض(...) لم أستطع تحديد ما يجري".
لكن ذلك المشهد الدامي، لم يطل كثيرا، حين أطلقت النار على مركبة سقف الحيط ووصلت رصاصة الى عينه.
"كان آخر ما رأيته هو الشابان يقعان أرضا، بفعل الرصاص الذي يطلق عليهما. في ذلك المكان أطلقت القوات الإسرائيلية المحتلة النار على شبان أمام عبد الجبار.
يقول سكان المدينة إن إطلاق النار استمر لساعات عديدة، تخللها انفجارات كثيرة هزت البلدة القديمة وأسفرت عن عدد كبير من الجرحى نقلوا إلى مشافي المدينة.
ويقول سقف الحيط " سمعت صوتا ينادي من بعيد: ارجع.. ارجع، وعندما قدت سيارتي للخلف انهمر الرصاص علينا".
تؤكد الحديث ذاته زوجته سمر، التي نقلته بمساعدة اختها إلى المستشفى لاحقا، وهي في حالة ذهول.
إن سقف الحيط يروي قصته دون أن ترف له إلا جفن عين واحدة، فقد غلفت العين الأخرى توطئة لاكتمال العمليات الجراحية فيها وإخراج ما تبقى من شظايا الرصاص المتفجر الذي استقر فيها.
بعد أيام من تلك الليلة، لا تصدر إشارات كلامية متفائلة من الشاب، الذي اعتاد على حياة ملؤها العمل والسفر إلى أقاصي العالم، لجلب الخبرات الصناعية الى مدينته.
من حسن الحظ، أن الشاب ظل على قيد الحياة، فاستقرار الرصاصة إلى أعلى قليلا كان من الممكن أن تحدث ضررا أكبر، فبين الحين والآخر، يظهر الارتباك على حركة يد سقف الحيط عندما ينظر إلى هاتفه النقال الذي لم يعتد على النظر إليه بعين واحدة.
إن طبقات كثيرة من الأمل والتفاؤل من حياة سقف الحيط، يبدو أنها انهارت مع فقدانه عينه، يقول إن عالمه الماضي تهاوى أمامه، ولم يعد يراه كما كان قبل تلك الساعة التي تعرضت فيها عائلته لمحاولة قتل.
تعرض العائلة صورا للشاب وهو في الساعة الأولى بعد إصابته مضرجا بدمائه، أما هو فيقول انه كان فاقدا للإدراك الكامل في تلك الليلة" كنت اسمع سماعات المساجد تنادي على أسماء الشهداء وانتظر اسمي يأتي في النداء التالي".
اما والده، وهو رجل أعمال من المدينة يعرض صورا من ماضي ابنه، المفعم بالتفاؤل والمنشغل دائما في التصميم "الغرافيكي" لبعض تصاميم المنتجات الصناعية التي صممها ابنه، عندما كان بعينين اثنتين.
أودى الهجوم الإسرائيلي في تلك الليلة بحياة عدد من أبناء المدينة، بينهم أيضا حلاقان اثنان كانا عائدين من عملها ليلا، وهناك من الجرحى ما زال يتلقى العلاج في مشافي المدينة، إذ أدى إطلاق النار العشوائي من الجيش الإسرائيلي إلى عدد كبير من الإصابات.
ولكل واحد من سكان المدينة، قصته مع تلك الليلة، فنسبيا سمع الجميع إطلاق النار والقذائف على الشبان والمنازل، وحتى الصباح، كانت الأدخنة ما زالت تتصاعد من المناطق التي استهدفت، وأصبحت نابلس على قائمة أسماء المدن التي يداهمها جيش الاحتلال ويخرج منها، ويترك شوارعها وأزقتها وقد اصطبغت بالدم.
يقول سكان المدينة، إن عددا ممن تلقوا رصاص الجيش الإسرائيلي كانوا يسيرون في الشوارع إما في طريقهم إلى منازلهم، أو عائدين من عملهم، بمن فيهم سقف الحيط نفسه، الذي يقول والده" لم نتخيل يوما ما حدث ".
وفي تلك الليلة شوهدت جموع كثيرة تتدفق إلى المشافي للاطمئنان على حالة المصابين، ومن بقي منهم حيا، بينما كان سقف الحيط في غرفة "لم أر فيها إلا الظلام وكانت باردة"، على حد وصفه.
كان سقف الحيط أول الجرحى الذين وصلوا إلى مشفى رفيديا الحكومي كما تقول زوجته. ومن هناك نقل إلى مشفى آخر وأجريت له أول العمليات، لكن العائلة لم تفقد الأمل حتى الآن بوجود شعاع نور في العين المصابة.
تتطابق نظرات الأمل في عيون العائلة، لكن سقف الحيط ينظر الى العالم بنظرة قاتمة." لم أر في أسوأ كوابيسي هذه اللحظة التي عشتها" قال الشاب. تردد المعنى ذاته زوجته.
قبل عام وأسبوعين من اليوم تزوج كل من عبد الجبار وسمر، وأسسا حياتهما الجديدة، في السنة التالية انقلبت الحياة رأسا على عقب، فعبد الجبار شهد على اقسي جريمة يتعرض لها من جيش الاحتلال، اما زوجته التي قضت معظم عمرها تعيش خارج فلسطين، كانت الشاهد أيضا على تلك الجريمة.
كان الشاب كما يصفه والده " فنانا" في التصميم "الغرافيكي"، ومن أجل صقل موهبته سافر مرات إلى أوروبا لتعلم مهارات حديثة، وهنا وهناك أبرم صفقات عمل وأصبح لديه الكثير من الصداقات، وكل ذلك، كان يرعاه ببصره التام وقدرته الذهنية على إدارة عمله بنجاح.
" كان العالم جميلا(...) جميلا كثيرا. نقلت التجارب وأصبح لدي منتجات جديدة تضاهي جودة المنتجات الفرنسية والايطالية"، فبالنسبة لسقف الحيط كان الشغف ضروريا لبناء حياة أفضل، وكان يعتمد على كلتا عينيه في إعداد خلطات بعض المشروبات الساخنة التي أصبح إعدادها ممكنا في مدينة نابلس وكانت صناعتها بحاجة إلى تركيز بكلتا عينيي الشاب، وهي مدينة معروفة بمهنها الكثيرة، وصناعاتها المتعددة، لكن شكوكا عميقة تساوره الآن بشأن قدرته على التعامل مع تشكيل المنتجات الصناعية التي بدأت تغزو الأسواق.
يقول سكان المدينة، ان الحصار الذي فرض على مدينتهم ضرب قطاعات واسعة من الاقتصاد فيها، خاصة قطاع المطاعم الذي كان يعتمد على الزبائن القادمين من خارجها، وذاته عبد الجبار، كان يسوق بعض منتجاته الى المطاعم.
اليوم، لا يوجد شيء يحدد طبيعة ايام الشاب المصاب، فهو يجلس بالمنزل يستقبل الزوار من الأقارب، لكن بالنسبة لوالده يرى ما جرى في المدينة هو امتداد لما يجري منذ عقود، عندما كان جيش الاحتلال يهاجمها ويقتل ويصيب الكثير من الشبان.
ويقول الوالد عبد الكريم سقف الحيط وهو يقود ابنه عبد الجبار من غرفة الى اخرى و يسيران بخطى وئيدة حذرة" هذا لم يكن في الحسبان.".
بين الحين والاخرى، يجري الرجل اتصالات هاتفية، بحثا عن بصيص أمل في علاج ابنه، فيما ما زال الابن يتحدث عن عالمه الماضي الجميل والمشرق الذي لم يعد موجودا.
عن (وفا)