الأحزاب الصهيونية وإعادة خلق "العربي الجيد"

الأحزاب الصهيونية وإعادة خلق "العربي الجيد"

الأحزاب الصهيونية وإعادة إحياء "العربي الجيد"

عصمت منصور

للوهلة الأولى، قد تبدوالحملة الانتخابية المركزة التي يوجهها نتنياهو ومن بعده بقيةأحزاب اليمين واليسار الإسرائيلية على حد سواء، للوسط العربي في الداخل، ساذجة وعديمة الجدوى من حيث مردودها الانتخابي وحجم الأصوات الذي يمكن ان تعود به على هذه الأحزاب، إلا أنها في جوهرها، وإلى جانب المكاسب الانتخابية الحسابية والآنية، تعكس توجها مختلفا، ووعيا متزايدا بالدور والمنحى الآخذ في الاستقلال والنديةالذي ينحو إليه الوسط العربي، والذي بلغ ذروته في الحملة الانتخابية السابقة وقدرة القائمة المشتركة على "كنس" الأحزاب الصهيونية من صندوق الاقتراع في الوسط العربي من جهة، ورفع نسبة التصويت لصالح القائمة المشتركة، وتمليكها قوة سياسية غير مسبوقة داخل الكنيست جعلتها القوة الثالثة من حيث الحجم، وهو ما جعلها تشكل حجر عثرة أساسيا،ورقما صعباأمام مساعي نتنياهو في العودة إلى الحكم، وتشكيل حكومة تنقذ حكم اليمين وتبعد عنه شبح السجن.

"الاحتضان" اللافت للوسط العربي، والسعي المحموم من قبل الأحزاب الصهيونية للتسابق على الصوت العربي، والذي اطلق شرارته الأولى رئيس الحكومة نتنياهو مبكرا وخلال الأسبوع الأول بعد حل الكنيست، لم يكن وليد اللحظة ولا نشأ في الفراغ، بل تضافرت عوامل عدة داخلية وخارجية هيأت له وجعلته ممكنا، أو على الأقل مهمة جديرة بأن تنجز من قبل نتنياهو واحزاب اليمين الإسرائيلية.

العربي الجيد

تساءل نتنياهو بدهاء أثناء زيارته لأم الفحم، والتي أشرف فيها على حملة التطعيم ضد كورونا للمواطن رقم مليون، والذي كان (بالصدفة البحتة) عربيا، وبالصدفة أيضا ذو ماض جنائي، وممن أمضوا فترة طويلة في السجن "لماذا لا يحتضن العربي (الفلسطيني) في الداخل المواطن الإسرائيلي كما يفعل ذلك العربي في دبي؟".

تساؤل نتنياهو ينطوي على الإجابة والمغزى في ذات الوقت، حيث ان توقيع اتفاق التطبيع الذي قاده شخصيا مع الإمارات، وثلاث دول عربية أخرى فتح شهيته على إعادة إحياء مفهوم "العربي الجيد" الذي يقبل بإسرائيل كما هي، بل وينبهر بها، ويتخلى عن تحفظاته تجاه سياساتها العنصرية وطبيعتها اليهودية واحتلالها للأراضي الفلسطينيةوقوانينها التفضيلية لليهود، مقابل مكاسب ومنافع فردية.

لا يستوعب عقل نتنياهو اللاهث خلف السلطة، والمشبع بالنظرة الاستعلائية للعربي، أن العرب يمكن ان يستمروا في شق طريق مستقل وندّي أمام الإغراءات التي يقدمها لهم وتقدمها لهم دولته، وأنه يمكنه من خلال دعاية انتخابية مركزة ومكثفة، ووعود مكررة لا ينوي للحظة تنفيذها، أومن خلال بث صوره الكاريكاتورية وهو يشرب القهوة في بيت شعر بدوي قرب راهط، وأخذ بعض صور (السلفي) مع المواطنات والمواطنين العرب، أو عبر اجتماعات (زووم) مع رؤساء سلطات محلية عرب ممن يحسبون أنفسهم على الليكود، أن يخرج من تحت كم قميصه السحري، العربي "الجيد" الذي يبحث عن المتعة، وأقصى طموح لديه ان يستثمر،أو أن يسافر للسياحة في البلدان العربية التي "فتحها" نتنياهو أمامه، عربي يقبل بالمرتبة الثانية أو الثالثة في دولة اليهود صاحبة قانون القومية، ولا يجد أي رابط يربطه بما يحدث مع أشقائه خلف الخط الأخضر.

وعلى الرغم من أن نتنياهو محترف في الحملات الانتخابية، واستطاع خلال أربع جولات انتخابية أن يحافظ على تفوقه وقدرته على التحكم بجدول أعمال الانتخابات السياسي والإعلامي من دون منافس، وكونه وفق ما وصفه به مستشاره السابق يوسي ليفي في إحدى مقابلاته مع صحيفة معاريف "لا يعرف الخطوط الحمر، أو الحواجز، ومستعد لفعل أي شيء من اجل الفوز" إلا أن من المشكوك به أنه قدرته على قطع هذا الشوط والتجرؤ على الذهاب بهذه الثقة إلى الوسط العربي لولا شخصيتين مركزيتين وقفتا الى جانبه وعبدتا الطريق أمامه وشكلا نموذجا جيدا للتعميم للعربي "الجيد" وهما: منصور عباس وبن زايد.

عباس وبن زايد يعدّانأهم مركبين في خطة نتنياهو من اجل إعادة انتخابهأولا، وإعادة إحياء العربي "الجديد" تاليا، لأنه في الوقت الذي فتح فيه بن زايد من خلال توقيع اتفاق تطبيع مع إسرائيل بمعزل عن حل القضية الفلسطينية وشكل نموذجا حيا لإمكانية "احتضان اليهودي للعربي" في تل ابيب او دبي دون مقابل ومن موقع القوة، فإن عباس من خلال شقه للقائمة المشتركة وخطابه "المتوازن"، ودعوته لعدم اتخاذ موقف مسبق ضد نتنياهو، وإعفائه من وزر الحالة التي وصلت اليها القضية الفلسطينية،أو الجماهير العربية في الداخل والتي تغرق في موجة عنف منظم ودموي، وإعطاءه فرصة أسوة ببقية أحزاب اليسار و"استغلاله" أو الموافقة على مبدأ الاستغلال المتبادل، او بكلمات اخرى القبول بمقايضة غير عادلة للحقوق الفردية مقابل الحقوق الجماعية، وهو ما خلق الأرضية الخصبة أمام نتنياهو والأحزاب الصهيونية لاختراق الوسط العربي وإعادته الى الوراء.

اكتشاف الصوت العربي

عندما وصف نتنياهو العرب بانهم "يهرعون" الى صناديق الاقتراع، وحاول نزع الشرعية عن صوتهم الانتخابي، اكتشف ان تكتيكه قاد الى نتائج عكسية وان دعوته تلك وحالة العداء والتشكيك بشرعيتهم أدت الى مضاعفة قوتهم وتوحيدهم، وشكلت مادة جيدة لدى قادة الجمهور العربي من أجل تحشيد الناخبين وجذبهم الى التصويت لهم بكثافة، واستثارة مشاعرهم نحو الوحدة وتحدي محاولات تهميشهم وإلقاء اصواتهم في سلة المهملات.

اكتشاف نتنياهو لفشل تكتيكه، جعله "يكتشف بشكل  أوضح إلى أي درجة "العربي جيد" وفق الكاتب ايتاي لندسبورج نابو والذي اعتبر ان أزمة كورونا والحالة الاقتصادية الرثة لدى الفلسطينيين في الداخل طورت مشاعر "الحب" من قبل الليكود تجاه العرب.

مشاعر "الحب" هذه وصفتها صحيفة معاريف بأنها السبب وراء اطلاق الليكود "لأكبر حملة غزل لليكود في الوسط العربي" والتي ترمي الى حصد مقعدين على الأقل على حساب أحزاب اليسار "التي تتقن الشعارات" لصالح نتنياهو الذي "يأتي وبيده حقائق مثبته في اللقاحات واتفاقيات السلام وخطط مواجهة الجريمة المنظمة".

لا يريد نتنياهو أن يشكل حكومة تستند الى الصوت العربي، بل الوصول الى القوة الكامنة لدى الناخب العربي، والذي تشير الاستطلاعات التي اجراها يوسف مقلدة ونشرتها القناة 13 إلى هناك ما بين 1.6 الى 2.1 من الجمهور العربي يمكن ان يصوت لليكود.

القناة قالت ان منصور عباس فتح الباب أمام الليكود ونتنياهو في الوسط العربي، سواء في خطابه الذي يتناغم مع طرح الأحزاب الصهيونية في كون الصوت العربي لا يساوي أي وزن سياسي من موقع المعارضة والمتفرج لعدم انخراطه في اللعبة السياسية، او بشقه للقائمة المشتركة ودخوله للانتخابات في قائمة مستقلة.

هذه القوة الانتخابية الكامنة في الوسط العربي، والتي استطاع نتنياهو بغريزته السياسية تمييزها،وخلق الأرضية الصالحة لاستثمارها والانقضاض عليها، اعطت ما يشبه الضوء الأخضر لبقية الأحزاب الصهيونية لتجريب حظها وأخذ فرصتها، فبعد نتنياهو جاء جدعون ساعر منافسه من اليمين والمنشق عن حزبه، الذي وضع نصب عينيه التكفل بمهمة إسقاطه، وأجرى جولة في الوسط العربي واجتمع برؤساء سلطات محلية، ليتبعه حزب يمينا الذي يرأسه نفتالي بيت والذي ذهب أبعد من ذلك، واقام مركزا انتخابيا خاصا به في البلدات العربية، وبذلك التم شمل الأحزاب الصهيونية كافة في الوسط العربي الذي يعاد اكتشافه من جديد.

نجاح أم فشل

بغض النظر عن حجم الأصوات التي سيجنيها نتنياهو وبقية الأحزاب الصهيونية من الوسط العربي، وإن كان سيستطيع تحقيق الهدف الذي حدده بالحصول على مقعدين لليكود يضمنان له الحكم من أصوات العرب، فإن اليمين الإسرائيلي برئاسة نتنياهو نجح حتى الآن في إضعاف القائمة المشتركة من خلال شقها، وهو ما سينعكس حتما على نسبة التصويت والإقبال على صناديق الاقتراع.

القائمة المشتركة التي فشلت في الحفاظ على قوتها وتماسكها، وصون القيمة الأساسية التي جعلت الجمهور العربي يلتف حولها وهي وحدتها (بسبب انشقاق منصور عباس) ستضطر الى استنزاف جهدها ودعايتها من اجل رفع نسبة التصويت، وأن يكون هذا التصويت لها هي وليس للأحزاب الصهيونية، وهي قفزة كبيرة الى الخلف مقارنة بالجولة السابقة من الانتخابات ونجاح أولي لنتنياهو.

كما ان نجاح المشتركة في المهمة الأولى برفع نسبة التصويت لن يضمن لها ان تعود الى قوتها السابقة، وفي حال فوز القائمتين (في أحسن الأحوال) لن يعطيها ذات القوة في التأثير على تشكيلة الحكومة،أو أن تكون قوة ثالثة مانعة على ضوء خطاب منصور عباس وتوجهاته، وحالة الغزل بينه وبين نتنياهو وهو أمر تروج له أحزاب اليمين،وتترجمه على شكل خطاب يبث شعور اللا جدوى من التصويت لقائمة (تجلس على مقعد الاحتياط) وضرورة الاستثمار انتخابيا في احزاب منخرطة في اللعبة وقادرة على تقديم "إنجازات" أكبر على المستوى الحياتي.

 لا أحد يضمن أن لا يكون لهذه الأجواء والاحتضان تأثير على مزاج الناخب العربي، والحافز لديه للتصويت لقائمة عربية فقط،أو أن يخرج إلى التصويت،أو أن لا يصوت لأحزاب صهيونية، وهذا هو جوهر ما أراده نتنياهو من خلال حملته المتواصلة والتي ستتكثف حتى يوم الانتخابات، خاصة وأن السباق على الأصوات في الوسط اليهودي شبه محسوم، ولا يشكل حلا لمعضلة حالة التساوي بين المعسكرين.

النجاح  أعلاه والذي حسم حتى قبل ان يتم فرز صوت واحد، قد يترجم انتخابيا بفوز نتنياهو، او قدرة معسكر "لا نتنياهو" على تشكيل حكومة، إلا أنه لا يضمن إعادة خلق عربي "جيد" مع أنه أحدث تصدعا في قوة ووحدة خطاب الحقوق الجماعية غير المشروطة وحالة الندية، التي تتنامى في الوسط العربي لدى الأقلية الأصلية من الفلسطينيين، سواء من يشاركون أو لا يشاركون في الانتخابات للكنيست، كما أنه حرف النقاش من كونه موجها تجاه جهة معادية واحدة هي المؤسسة الحاكمة بكافة تلاوينها، إلى كونه جدلا داخليا منقسما على ذاته بين نهجين وتيارين،  وهو ما عبر عنه الكاتب والناشط برهوم جرايسي على صفحته على الفيس بوك، على خلفية زيارة نتنياهو لتجمع بدوي قرب راهط والتقاط صور له وهو يحتسي القهوة العربية ويصبها لمضيفيه، والتي اعتبرها أنصار تيار منصور عباس إنجازا صافيا لهذا النهج تحقق خلال سبعين يوما بـ" اجبار نتنياهو على صب القهوة للعرب، بينما طرح الغير أجبر العرب على صب القهوة لنتنياهو"، وتحول هذه الصفحة الى واحدة من حلبات السجال بين التيارين وانتقال هذا الجدل الى الشارع وطرد الجماهير العربية لمنصور عباس من مظاهرة ام الفحم، هذه المظاهرة وما تبعها من مظاهرات أخرى التي يمكن اعتبارها واحدة من مؤشرات الوعي العميق والفطري بخطورة التوجه اليميني وعدم المراهنة على الوعود الانتخابية وإحدى علامات فشل نتنياهو.

صحيفة هآرتس شككت مبكرا ومن خلال تحليل لجاكي خوري في 4-1-2021  من قدرة نتنياهو على كسب الصوت العربي، او أن ينجح في إزالة الشكوك العميقة تجاهه وتجاه المؤسسة حتى في ظل الحالة الداخلية التي تعيشها والتطبيع مع دول عربية.

خلاصة القول، أن متابعة الحملات الانتخابية للأحزاب الصهيونية وتسابقها على الصوت العربي، وإن كانت تظهر على انها تسابق انتخابي إلا انها في جوهرها عبارة عن محاولة لإعادة ترويض الفلسطيني العربي، ولجم حالة الندية التي يبديها والقوة السياسية التي يراكمها والشعارات الوطنية ومركبات الهوية التي يعبر عنها، وأنه من خلال إضعاف القائمة المشتركة، واختراق صندوق الانتخاب العربي ودعم خطاب مطلبي قادر على تحقيق مكسب آني انتخابي (تتنازع عليه الأحزاب الصهيونية وتريد تقاسمه والتسابق عليه) ومكسب بعيد المدى تلتف حوله وتجمع عليه.

لا يمكن تحقيق المكسب الاستراتيجي بعيد المدى إلا من خلال المرور عبر صندوق الاقتراع وتحقيق المكسب الانتخابي، وهوما يعني أن هذه المعركة الانتخابية قد تكون واحدة من علامات الطريق والمؤشرات على شكل وطبيعة العلاقة المستقبلية بين فلسطينيي الداخل، والمؤسسة الحاكمة المتجهة أكثر وأكثر نحو اليمين ونحو حصر وجودهم وحقوقهم وسقف خطابهم في الشأن اليومي والمعيشي الفردي.