الربيع العربي في نظر إسرائيل

الربيع العربي في نظر إسرائيل

الربيع العربي في نظر إسرائيل

خلدون البرغوثي

 

كعادة إسرائيل، فإنها تقدم الاعتبارات والمصالح الأمنية والسياسية الخاصة بها على أية اعتبارات أخرى في تعاملها مع التطورات الداخلية والإقليمية والدولية. ولم تبتعد إسرائيل في تعاملها مع أحداث "الربيع العربي" وأحداثه ونتائجه عن منظور الإيجابيات والسلبيات بالنسبة لها سياسيا وأمنيا واستراتيجيا.

ومع مرور عقد على بداية الثورات التي تحول بعضها إلى حروب أهلية، وإلى حروب بالوكالة، استعرض محللون ومراكز أبحاث آثار الأحداث التي عصفت ببعض الدول العربية على إسرائيل، من ناحية، كذلك استعرضوا من ناحية أخرى مآلات الثورات العربية حاليا، كبروز محاور متضادة غيرت في موازين التحالفات السياسية في المنطقة. ويلاحظ حضور إيران بشكل واضح في مقاربات الباحثين والكتّاب حول مرور عقد على بدء الربيع العربي.

رسم حدود الشرق الأوسط

يستعرض عضو الكنيست السابق تسفي هاوزر في تحليل في مجلة "هشيلواح" المتخصصة في الشؤون الفكرية والسياسية، آثار الثورات العربية على رسم حدود إسرائيل من منظور استراتيجي قومي.

ويعتبر هاوزر أن الربيع العربي غيّر نقطة التوازن التي كانت قائمة في الشرق الأوسط منذ اتفاقيات سايكس- بيكو العام 1916، وأثار تساؤلات حول بعض حدود المنطقة. ومنذ بداية أحداث الربيع العربي، قوّضت قوى قديمة- جديدة، قائمة على أسس دينية وقبلية، الأنظمة الحاكمة وتقاسمت مجالات النفوذ بينها طامسة الحدود المتعارف عليها. فالتحولات السكانية القسرية وتبلور مناطق الحكم الذاتي كواقع على أساس الهوية العرقية أو الدينية، أعادت تشكيل المساحة المعيشية للتنوع البشري التي تشكل المنطقة.

ويرى هاوزر أن من أبرز تداعيات الربيع العربي بالنسبة لإسرائيل إنشاء محور شيعي متطرف متواصل بريا من طهران إلى القنيطرة على حدود الجولان، وأصبحت إيران البعيدة جغرافيا آلاف الكيلومترات عن إسرائيل، موجودة على الحدود الشمالية لإسرائيل في منطقة خالية من الحكم، أو المنطقة الحرام. هذه الحدود - كما يقول هاوزر- كانت في الماضي القريب تفصل إسرائيل عن كيان سياسي يسمى سورية.

ويرى هاوزر أن الأحداث العاصفة التي شهدتها المنطقة في السنوات العشر الأخيرة لم تصل إلى نهايتها بعد لعدة عوامل، التغير المناخي، وندرة المياه، والنمو السكاني، والمجاعة، وجائحة كورونا، إلى جانب الصراعات الدامية، وثقافة الثأر، ومنح الشرعية للإرهاب وحل النزاعات بالعنف. كل هذا العوامل حسب هاوزر تبرر لإسرائيل وجيرانها والعالم تخوفهم من موجة أخرى من انهيار الاستقرار في دول المنطقة. فأحداث الربيع العربي أعادت رسم حدود الشرق الأوسط بحكم الأمر الواقع حتى لو لم تكن حتى الآن بحكم القانون. حدود الماضي - خاصة بين العراق والأردن وسورية ولبنان- تم تحديدها بشكل تعسفي ومن منطلق المصلحة الذاتية في اتفاقيات سايكس- بيكو قبل حوالي مئة عام، مع نهاية الحرب العالمية الأولى. كانت هذه في الغالب حدوداً مصطنعة، متجاهلة التقسيمات العرقية والدينية والثقافية للشعوب والقبائل التي قسمت الفضاء الإمبراطوري العثماني، وأنشأت "دولا قومية" مخترعة. فتغيير حدود الشرق الأوسط بات عملية تاريخية ضرورية، حتى لو كانت في مهدها فقط. ويتوجب على إسرائيل، كقوة شرق أوسطية، أن تقود الخطاب الاستراتيجي الذي يعترف بهذا الاحتمال، وهو خطاب تجد أوروبا صعوبة في الاعتراف به.

صعود الإسلام السياسي

أعاد معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي الشهر الماضي نشر دراسة أعدت العام 2013 تستعرض فيها الباحثة بينيدتا بيرتي، أثر الربيع العربي على صعود حركات الإسلام السياسي. وتشير الدراسة إلى أن نتائج الثورات لم تكن لصالح كل الحركات الإسلامية في المنطقة، فمثلا حزب الله بقي على هامش الأحداث وخسر الثقة فيه بعد تدخله العسكري لصالح النظام السوري. لكن ورغم أن بداية الربيع العربي لم تأت نتيجة لتحرك الإسلاميين في المنطقة، لكن في الدول التي حدث فيها تغيير في الأنظمة، تمكنت معظم الحركات الإسلامية من تحسين وضعها وقوتها، ووصلت إلى الحكم ولو لفترة مؤقتة، كما في مصر وتونس.

بالنسبة لإسرائيل - تقول الباحثة- فإن التغيرات السياسية في الدول المحيطة تشكل تغييرا في ميزان القوى في المنطقة، لذلك لم تتخذ إسرائيل موقفا رسميا تجاه مجريات الأحداث، لكنها اعتبرت أن التغيرات السياسية السريعة وغير المضبوطة لن تكون في النهاية لصالحها. ومع اندلاع الأحداث كان القلق في إسرائيل يتمحور حول استقرار الدول المحيطة وإمكانية تأثير ذلك على اتفاقيتي السلام بين إسرائيل ومصر وإسرائيل والأردن.

وحسب بيرتي فإن إسرائيل كانت تدعم بقاء الوضع القائم [الأنظمة السابقة] في تونس ومصر، وانعكس ذلك في تصريحات رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو بأمله أن يعود الاستقرار إلى تونس، وعبر رئيس هيئة الأركان السابق ووزير الدفاع حينئذ شاؤول موفاز عن أمل مشابه بالنسبة لمصر عبر سيطرة النظام على الاحتجاجات ضده.

وفيما يخص سورية، تقول بيرتي إن وجهات النظر تباينت في إسرائيل بالنسبة للنتيجة المفضلة لها لمصير الثورة هناك. فقسم في القيادة الإسرائيلية رأى أن بقاء نظام بشار الأسد سيساهم في الاستقرار الحدودي في الجولان، وانهياره قد يؤدي إلى وصول قادة أكثر تطرفا للحكم. أما القسم الثاني فرأى أن سقوط نظام الأسد سيشكل ضربة للنفوذ الإيراني وسيؤدي إلى تحسن الوضع الأمني بالنسبة لإسرائيل.

أما في تونس فتمكنت حركة النهضة الإسلامية من الوصول للحكم، لكنها أبدت مرونة في التعامل مع الأحزاب العلمانية من ناحية، وفتحت المجال لحركات سلفية بالعودة للعمل في الساحة السياسية من ناحية ثانية. رغم ذلك وبسبب عدم وجود علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وتونس، فإن تطورات الوضع فيها ليست مصدرا للقلق الآني بالنسبة لإسرائيل، لكن القلق قد يتصاعد في حالة إقرار البرلمان التونسي مشروع قانون لتجريم التطبيع مع إسرائيل قدمته "الكتلة الديمقراطية" في مجلس نواب الشعب التونسي، في كانون الأول 2020.

وبالمجمل تعتبر الكاتبة أن الوضع (عام 2013) قد لا يكون في صالح إسرائيل، لكنها توقعت على المدى البعيد أن يتغير الوضع لصالح إسرائيل، بفتح قنوات اتصال مع دول عربية وإسلامية. هذا التوقع، تحقق حاليا باتفاقات السلام بين الإمارات والبحرين والسودان والمغرب وبين إسرائيل، ضمن سعي دول ما تسمى "المحور السني المعتدل" لتشكيل جبهة تضم إسرائيل لمواجهة مساعي إيران للتمدد في الشرق الأوسط، خاصة في الدول التي تواجه صراعات عسكرية كسورية واليمن والعراق، وكذلك في لبنان كتبعات للثورات العربية.

إيران و"الربيع".. معادلة الربح والخسارة

في مقال نشرته مجلة "تسيكلون" الصادرة عن معهد السياسات والاستراتيجيا في مركز هرتسليا تناول الباحث ميخائيل سيغل المتخصص في الشأن الإيراني، والباحث في مركز الدراسات التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" في الجيش الإسرائيلي سابقا، علاقة الربيع العربي بتمدد نفوذ إيران. المقال جاء تحت عنوان "ربيع عربي أم صحوة إسلامية: التوازن الاستراتيجي الإيراني بعد عشر سنوات من الاضطرابات في الشرق الأوسط".

يشير سيغل إلى أن إيران نظرت في البداية إلى الثورات العربية كتهديد، خاصة أنها خاضت تجربة العام 2009 على أراضيها في موجة الاحتجاجات التي سميت "الثورة الخضراء"، وخشيت أن تمتد عدوى الثورات العربية إليها من جديد. لكن لاحقا، تبين لطهران أن ما كانت تعتبره تهديدا لها بات فرصة استراتيجية، فضعف العالم العربي وتقويض الأنظمة التي كان بعضها عدوا لدودا لإيران خلق فراغا سلطويا سارعت إيران إلى إيجاد موطئ قدم لها فيه، ضمن سعيها لتحقيق رؤية "الهلال الشيعي" الممتد من الخليج حتى البحر المتوسط. وبذلك، مثلت إيران بشكل بارز نزعة تعزيز نفوذ القوى غير العربية في الشرق الأوسط في خضم الاضطرابات الإقليمية، في ظل الضعف المتصاعد في العالم العربي.

من هذا المنطلق، يقول سيغل، حاولت إيران طرح الربيع على أنه "صحوة إسلامية" منحتها فرصة لتعزيز رؤيتها العقيدية في المنطقة.

ويعتبر النفوذ الإيراني في سورية كأحد الإنجازات الاستراتيجية الكبرى بالنسبة لطهران في السنوات العشر الأخيرة. وتعتبر إيران سورية الحلقة الذهبية في سلسلة "محور مقاومة إسرائيل"، وهي ركيزة أساسية لاستراتيجية الأمن القومي الإيراني. فإلى جانب نفوذ طهران وسيطرتها في لبنان، عمقت تدخلها العسكري في سورية لضمان استمرار حكم الأسد، كما استدعت حزب الله في 2013 للقتال في سورية. علاوة على ذلك، تولي إيران أيضاً أهمية كبرى لتحقيق تسوية سياسية في سورية مع انتهاء الحرب الأهلية، وتعتبر هذه التسوية نقطة تحول فيما تسميه "إعادة تصميم الشرق الأوسط".

ويعتبر سيغل أن إيران حققت نوعا من التوازن في إنجازاتها وإخفاقاتها مع مرور عقد على الربيع العربي، فيشير إلى أنها نجحت في حماية نظام الأسد في سورية، وحافظت على مصالحها في لبنان، وعززت مكانتها في العراق واليمن، واندمجت بنجاح في الجهود الدولية التي أدت إلى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية"، لكن من ناحية أخرى، تلقت طهران ضربات عسكرية ومعنوية شديدة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، وتواجه صعوبات اقتصادية مستمرة، وتكافح لاحتواء الاضطرابات الداخلية، كما تواجه إخفاقات في محاولاتها زعزعة استقرار دول عربية رئيسية.

ويرى سيغل أن تولي جو بايدن الرئاسة في الولايات المتحدة سيمنح إيران ثقة نفس إضافية، قد ترفع من مستوى جرأتها، عبر تنفيذها خطوات استفزازية في الشرق الأوسط، وكذلك في محاولتها تعميق نفوذها في رسم ملامح النظام المستقبلي في دول رئيسة في المنطقة، بما فيها سورية والعراق واليمن.

"الربيع العربي" في الصحافة العبرية

حظي مرور عشر سنوات على بدء "الربيع العربي"، بتغطية في الصحافة العبرية، وتعود إيران لتفرض وجودها في المقالات والتحليلات الصحافية، كما يلاحظ.

صحيفة "يسرائيل هيوم" ركزت على الثمن الدامي للحرب الأهلية في سورية. ويستعرض دانيال سيريوتي ونيطع بار، تحت عنوان "عقد من الدم والدمار في سورية: الثمن الفظيع يواصل الارتفاع"، الوضع الإنساني السوري حاليا، بعد عشر سنوات على الاحتجاجات العفوية التي انطلقت في درعا، ودفع نصف مليون شخص حياته في الأحداث التي تلتها، فيما تحول الملايين لاجئين داخل سورية أو خارجها.

ويقدم الكاتبان خطا زمنيا للأحداث على أساس سنوي، وكيف تحولت التظاهرات المطالبة بالديمقراطية إلى حرب شاملة يقدر خبراء أجانب أن ما بين 350 ألفا إلى 600 ألف شخص قتلوا خلالها، وهاجر من سورية أكثر من خمسة ملايين شخص، فيما هجر داخليا أكثر من سبعة ملايين آخرين، ليصبح أكثر من نصف سكان الدولة لاجئين عمليا.

ومع هذا الثمن الدامي، بقي الأسد على كرسي الحكم رغم المجازر التي ارتكبها نظامه، بما فيها استخدام السلاح الكيميائي. فيما تحولت سورية إلى دولة تحت احتلال روسي- إيراني، يتحرك فيها مقاتلو حزب الله بحرية.

وفي "مكور ريشون" يتناول مردخاي كيدار الأثر الذي تركه تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" على صورة الإسلام في نظر المسلمين أنفسهم بسبب ممارساته في سورية والعراق.

وتحت عنوان "عقد على الربيع العربي: كيف فكك داعش صورة الإسلام؟"، يتناول كيدار عدة جوانب، منها سبب بقاء الأسد في الحكم، رغم سقوط رئيسين هما التونسي زين العابدين بن علي، والمصري حسني مبارك، خلال فترة قصيرة جدا، فيما بقي الأسد في الحكم.

يرى كيدار أن السبب الرئيس هو أن المجتمعين التونسي والمصري ليسا مجتمعين طائفيين، بالمقابل فإن سورية دولة طائفية، والأسد مدعوم من قبل طائفته (العلوية) سواء كان مصيبا أم مخطئا، وسواء كانت الدولة فاعلة أم مشلولة.

وبعد استعراض تحول الاحتجاجات إلى حرب، يشير كيدار إلى دخول تنظيم داعش إلى الساحة السورية، وكيف ساهم ذلك في دخول روسيا وإيران وكذلك تركيا فعليا إلى المعركة.

لكن كيدار يترك التفاصيل ويشير إلى الضرر الكبير الذي تسبب به تنظيم داعش للعالم الإسلامي، عبر بثه صور عمليات الإعدام البشعة بطرق بشعة للرهائن والأسرى لديه. هذه الفظائع - حسب ظن كيدار- دفعت الكثيرين من الجيل الشاب في العالم الإسلامي إلى هجر الإسلام نفسه، لأنه باتوا يرون أن عدوهم يتكلم العربية والفارسية وليس العبرية، وهذا قد يكون سببا في إقدام دول عربية مؤخرا على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، كنتيجة لهذا التغير العميق.

وفي النتيجة يرى كيدار أن السنوات العشر للربيع العربي أدت إلى القضاء على التهديد السوري لإسرائيل، وجعلت سورية ساحة مستباحة لعدة دول، وتسببت للإسلام بضرر لا يمكن وصفه بسبب ممارسات داعش التي كان معظم ضحاياها من المسلمين.

في هذا الاتجاه يكتب أيضاً محلل الشؤون العربية عوديد غرانوت فيقول إن الحل بالنسبة لسورية يكمن في "شفاء الأسد من الطفرة الإيرانية" حسب تعبيره. فبعد عشر سنوات من الصراع، بقي الأسد في الحكم، لكنه خسر سورية لصالح إيران التي تواصل جهدها لتكريس نفوذها هناك من دون إظهار أي إشارة للانسحاب، بالمقابل تغلغل عناصر حزب الله في صفوف الجيش السوري بصفتهم مستشارين، فيما يواصل الجيش السوري تقديم الدعم العسكري لحزب الله مقابل النفط الإيراني. وإن عملية التخلص من النفوذ الإيراني في سورية وقطع العلاقة بين طهران ودمشق ستكون صعبة، يقول غرانوت، لكنها غير مستحيلة عندما يتعلق الأمر بالوسائل العسكرية فقط، كما أن الروس ليسوا متحمسين للنفوذ الإيراني، وكذلك النظام السوري المدين لطهران بنجاته ليس سعيدا بتحوله إلى رهينة لدى خامنئي.

الحل بالنسبة لغرانوت قد يكون عبر الإغراء الاقتصادي، فسورية التي لم تتعاف من الحرب الأهلية بحاجة إلى المليارات من أجل إعادة بنائها، وفقط استعداد الدول الغربية لتوفير هذه الأموال لها مقابل ابتعادها عن إيران مع استمرار فرض العقوبات الدولية على النظام الإيراني، قد يساهم في "شفاء الأسد من الطفرة الإيرانية"، على حدّ تعبيره.