فرنسا والعودة للاعتماد على الطاقة النووية

فرنسا والعودة للاعتماد على الطاقة النووية

فرنسا والعودة للاعتماد على الطاقة النووية

 

عندما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون إحياء الطاقة النووية في خطابٍ وجَّهه إلى الأمة ، ظن سكان بلدة صغيرة في شرق فرنسا في البداية أنهم لم يفهموه، وفقًا لتقرير «واشنطن بوست» ، والذي يوضح موقف فرنسا وألمانيا المتعارض من الطاقة النووية. وفي بداية التقرير أشار الكاتب إلى ما قاله ماكرون في خطابه المتلفز: «للمرة الأولى منذ عقود ستعيد فرنسا إطلاق بناء مفاعلات نووية".

وكانت منطقة فيسنهايم قد بدأت في تقبل إغلاق محطتها النووية العام الماضي، فيما قالت الحكومة إنها «خطوة أولى» في «إعادة التوازن» لمصادر الطاقة، لكن بينما يظل ماكرون ملتزمًا بزيادة الاستثمارات في طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ووضع حد لحرق الفحم، أكدت تصريحاته في الشهر الماضي أن فرنسا لن تتخلى عن التكنولوجيا النووية مصدرها الأساسي للطاقة.  

فرنسا هي الأولى في العالم في اعتمادها على الطاقة النووية. وهناك خطة لتقليل هذا الاعتماد، بحيث لا يأتي أكثر من نصف الكهرباء الفرنسية من الطاقة النووية بحلول عام 2035.

وتجادل حكومة ماكرون بأن الاستثمارات في الطاقة النووية ستسمح لفرنسا بالحد من تكاليف الطاقة والتحكم في إمداداتها وتحقيق أهدافها المناخية، وتقود فرنسا مجموعة من دول أوروبا تطالب بإضافة الطاقة النووية إلى قائمة «الأنشطة الاقتصادية المستدامة بيئيًّا». وفي فيسنهايم أثار ذلك الأمل في أن المدينة، التي تدعم محطة الطاقة فيها أكثر من ألفى وظيفة.

وحثَّ رئيس منطقة الألزاس المحيطة، فريديريك بيري، ماكرون على اعتبار فيسنهايم موقعًا محتملًا في المستقبل، واصفًا إغلاق المحطة القديمة بأنه فضيحة «مالية» و«اجتماعية» و«اقتصادية» في مواجهة ارتفاع درجات الحرارة، لكن واحدة من أكبر العقبات أمام فيسنهايم وخطط ماكرون الأوسع تتمثل في موقف ألمانيا المجاورة من الطاقة النووية.

وترى الحكومة الألمانية أن المحطات النووية خطيرة ومكلفة للغاية، ويصعب أن تكون حلًا لأزمة المناخ. وتريد ألمانيا والدنمارك والنمسا، من أوروبا إغلاق محطاتها النووية المتبقية وتعارض بشدة وصف الطاقة النووية بأنها صديقة للمناخ؛ الأمر الذي من شأنه أن يحمل المستثمرين الخضر على تمويل الطاقة النووية.

بين فرنسا وألمانيا

يرجح التقرير أنه ربما لا يوجد مكان يرمز إلى الانقسامات الأوروبية حول الطاقة النووية أكثر من فيسنهايم. وقد بنيت المحطة التي تبلغ طاقتها 1800 ميجاوات في السبعينات – مبنى أبيض ضخم به مبنيان شاهقان لاحتواء المفاعل، يرتفع خلف غابة خارج المدينة.

وعلى الجانب الفرنسي من الحدود، كانت هذه المحطة النووية مصدر فخر ومنافع اقتصادية، وكانت إلى حد بعيد أكبر مصدر للوظائف في المنطقة. وساعدت ضرائب المحطة في تنمية المدينة والملاعب الرياضية والمدارس ومراكز التسوق، ويقول لوران شوين أحد السكان، الذي أشار إلى أن عائلته اضطرت لتوسيع مطعمها مرارًا لاستيعاب الزيادة في عدد السكان والزوار، إنه في ذروة عمل المحطة النووية كانت منطقة فيسنهايم تنعم «بكل شيء». وأضاف أن السكان المحليين ليسوا قلقين بشأن سلامة المحطة.

ولكن على الجانب الآخر من الحدود، كانت المنطقة القريبة من فيسنهايم جزءًا من الحركة الألمانية المناهضة للطاقة النووية. عندما ارتفعت سحابة مشعة من مصنع تشيرنوبيل في عام 1986 وانتقلت نحو أوروبا الغربية، أصبحت فيسنهايم نقطة تجمع لنشطاء ألمانيا الغربية، وأطلق النشطاء إنذارات في كل مرة ظهرت فيها تقارير عن مشكلات تتعلق بالسلامة في المحطة. وكانوا قلقين بشأن دراسة سويسرية توضح أن المخاطر الزلزالية في المنطقة جرى التقليل من شأنها.

وأدَّت كارثة فوكوشيما إلى تفاقم المخاوف. وفي الأشهر التي أعقبت الحادثة قررت الحكومة الألمانية إغلاق ما يقرب من نصف محطاتها النووية إغلاقًا دائمًا وتقليص سنوات تشغيل النصف الباقي. وفي فرنسا، وفي العام التالي للحادث، وعد فرنسوا أولاند أثناء حملته الانتخابية بإغلاق فيسنهايم إذا انتُخب رئيسًا للبلاد.

واستغرق الأمر ثماني سنوات أخرى وإدارة لاحقة حتى يحدث ذلك، ولكن عندما أزيلت محطة فيسنهايم من الشبكة في يونيو (حزيران) 2020، احتفل النشطاء في بلدة برايزاخ الحدودية الألمانية بما عدُّوه عودة فرنسا أخيرًا إلى رشدها. وتجمَّعوا على جسر على مسافة غير بعيدة من فيسنهايم، وهم يلوحون بلافتات تظهر شمسًا حمراء مبتسمة، ورمزًا نوويًّا مشطوبًا.

يقول الناشط إيبرهارد بويب إنهم لم يحتفلوا احترامًا للفرنسيين في ذلك اليوم. وأضاف: «لكن فيما يتعلق بنا، شعرنا وكأننا نحتفل بعيد الفصح وعيد الميلاد في الوقت نفسه. لقد ولَّد هذا ارتياحًا كبيرًا». كان المزاج في فيسنهايم مختلفًا اختلافًا مفهومًا. يتذكر بندر، رئيس البلدية، الدموع التي سالت من أعين السكان المحليين، الذين عدُّوا إغلاق المحطة «خطًا تاريخيًا» و«تضحية» سياسية لإرضاء المتشككين، ويقول رئيس البلدية: «سَلَب هذا الإغلاق جزءًا من أنفسنا".

البيئة

يلفت التقرير أن بندر يحتفظ في مكتبه برسم يُظهر الحدود الألمانية الفرنسية: محطة طاقة نووية مغلقة على الجانب الفرنسي، ومحطة طاقة تعمل بالفحم الصلب أعيد افتتاحها حديثًا على الجانب الألماني. ومثل العديد من المدافعين عن الطاقة النووية في فرنسا يجادل بندر بأن موقف ألمانيا المناهض للطاقة النووية واعتمادها على الوقود الأحفوري يتعارض مع صورتها الذاتية باعتبارها قائدة في مجال المناخ.

وبحسب التقرير تبلغ نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في ألمانيا للفرد ضعف نسبتها في فرنسا. وستضطر برلين للاعتماد على الفحم ومصادر الطاقة الملوثة عند توقف آخر محطاتها النووية العام المقبل، وتقول حكومة ماكرون إن التمسك بالطاقة النووية سيساعد فرنسا على الوفاء بالتزامها بأن تكون محايدة للكربون بحلول عام 2050.

يقول ألكسندر دانثين، من شركة أوروا لأبحاث الطاقة: إنه «إذا نظرنا إليها من منظور الكربون، فإن الطاقة النووية واحدة من الأفضل في فئتها». ويعترف نشطاء البيئة في ألمانيا بأن الاعتماد المستمر على الفحم يمثل مشكلة حتى على المدى المتوسط، لكنهم متفائلون بشأن السرعة التي يمكن أن تكثف بها البلاد الطاقة البديلة. وتعهد حزب الخضر الألماني بزيادة الإنفاق على مصادر الطاقة المتجددة والحد من ارتفاع أسعار الطاقة للمستهلكين، ويريد أن تشكل الطاقة المتجددة 80 في المئة من الكهرباء بحلول عام 2030.

ويرفض الناشطون الألمان فكرة أن الطاقة النووية خضراء أو مستدامة، ويتحدثون عن احتمال وقوع حوادث بيئية كارثية، ومشكلات تخزين النفايات المشعة قاتلة. ولا يريدون الاستثمار إلا في طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ويقول الناشط والبيئية ستيفان أوشتر إن مسار بلاده سيجري التحقق من صحته عندما يقع حادث مثل تشرنوبيل أو فوكوشيما. وفي إشارة إلى مطار برلين الجديد الذي تأخر موعد افتتاحه تسع سنوات، قال أوشتر: «من الذي يصدق حقًا أنه يمكننا إنجاز ذلك دون خطأ، في حين أننا لا نستطيع حتى بناء مطار»؟

نماذج المنافسة

يوضح التقرير أنه في المعرض النووي العالمي في إحدى ضواحي باريس هذا الشهر، ظهر شعور متجدد بالثقة، وتناول العاملون في الصناعة طعام الغداء تحت سقف مفاعل مصغَّر، ولم يذكر ماكرون أي تفاصيل في إعلانه عن المفاعلات الجديدة. وربما كان يشير إلى مفاعلات الماء المضغوط الكبيرة المتقدمة في مجال السلامة والكفاءة على المفاعلات التقليدية مع إنتاج نفايات أقل. وقدمت شركة الكهرباء الفرنسية دراسة (EDF) دراسة جدوى للحكومة في الربيع لبناء ستة مفاعلات من هذا النوع.

لكن جيلًا جديدًا من المفاعلات الأرخص والأكثر أمانًا والأصغر – المعروف باسم المفاعلات المعيارية الصغيرة أو SMRs – يجدد الاهتمام في أجزاء مختلفة من العالم. وقال مفوض الطاقة الأوروبي كادري سيمسون في خطاب ألقاه في نوفمبر (تشرين الثاني) إن «شروط الحديث حول الطاقة النووية في أوروبا آخذة في التغير». وتعتمد آمال التصدير الفرنسية إلى حد كبير على تلك النماذج الصغيرة، والتي من شأنها أن تنافس المفاعلات المعيارية الصغيرة التي تطورها الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا.

كما قال رينو كراسوس، مدير مشروع المفاعل النووي الصغير لشركة الكهرباء الفرنسية، إن «المفاعلات المعيارية الصغيرة التي ستخرج في العقد المقبل كلها تضمن أمانًا عاليًّا»؛ وفي بلدة برايزاخ على الجانب الألماني من الحدود بالقرب من فيسنهايم لم يزل العمدة أوليفر راين متشككًا، وكان يتوقع أن يؤدي إغلاق المحطة النووية إلى تمهيد الطريق لمشروعات الطاقة المتجددة الفرنسية الألمانية المشتركة، ولكن إذا اتبعت البلدة المجاورة فكرتها «السخيفة» لإحياء محطتها النووية، فإن هذه «العملية الفرنسية الألمانية ستدمر».

وأشار راين إلى أن الدفع النووي الجديد لفرنسا قد يكون مرحلة قصيرة الأجل قبل الانتخابات الرئاسية العام المقبل، لكن استطلاع رأي حديث أوضح أن أغلبية الفرنسيين يؤيدون الطاقة النووية، وأن أخطر منافسي ماكرون على الرئاسة رددوا تعليقاته، أو يدعموا الاعتماد الأكبر على الطاقة النووية. ومع ذلك يشعر البعض في فيسنهايم أن الحقبة النووية التالية قد لا تحدث في مدينتهم.

يقول جان إيف تريتز من فيسنهايم، 63 سنة، عامل متقاعد: «بضغط الألمان، سيكون الأمر صعبًا»، وقال كلود ليدرجيربر، الناشط الفرنسي: إن إعادة التنشيط من الناحية التكنولوجية «لم يعد ممكنًا». وقال صاحب مطعم، إنه مستعد لمغادرة آخر العاملين في المحطة النووية عند اكتمال إيقاف تشغيلها في السنوات القادمة، ومن ثم قام بتركيب ألواح شمسية.

عن واشنطن بوست