لافي خليل بطل من زمن آخر

لافي خليل بطل من زمن آخر

بقلم: الدكتور عدنان ملحم

عيسى خليل فلاح فقير جدا يعيل أسرة صغيرة، يعيش في قرية وادعة اسمها رامين، تقع على الطريق الرئيس الرابط بين مدينتي نابلس وطولكرم، وتحديدا شرق قرية عنبتا، يزرع أرضه في البقوليات، ويعتني بأشجار الزيتون واللوز والتين، ويعمل أحيانا بمشاريع عمرانية في مدينة حيفا، همه الأساس تأمين لقمة عيش زوجته وولده الوحيد لافي، فقد نظره كليا عام 1944، بفعل إلتهابات حادة داهمت عينيه، ووجد نفسه وجها لوجه أمام العوز المطبق .

أخرج ولده الوحيد لافي من المدرسة، رغم تصدره سباق العلم والتميز ؛ ليصبح حراثا صغيرا لم يتجاوز عمره الحادي عشر ربيعا. بكى الفتى كثيرا، مطالبا العودة إلى المدرسة، وبكى الأب في الوقت نفسه بسبب عجزه عن تلبية رغبة ولده.. يا الله اي برد يلف جسد الصغير وهو يجر حماره بعد صلاة الفجر نحو أراضي القرية !؟ أي وجع يسكن قلبه وهو يرى أقرانه يحملون كتبهم ويذهبون إلى المدرسة !؟ لم يستسلم الصغير لواقعه المر، فظل يستعير دفاتر وكتب رفاقه الطلبة، ويقرأ الدروس وينجز الواجبات، كأن شيئا من حياته لم يتغير.

عامان من الشقاء والتعب، عاشهما لافي في ميادين العمل، آلاف من التوسلات أودعها قلب والده الضرير، الأمر الذي دفعه للبحث عن مكان لابنه في مدارس القرية المجاورة عنبتا، وقد أجريت للفتى امتحانات صعبة ودقيقة لقياس مستواه العلمي، فأذهلت النتائج الممتحنين، وسمح له بالعودة إلى ساحات العلم ثانية، بشرط أن يوفر مقعدا خشبيا يجلس عليه في صفه، فلا إمكانات مادية تذكر لدى إدارة المدرسة. الشرط المطلوب يكلف خمسة جنيهات عدا ونقدا، ودون تردد رهن الوالد أرضه، واشترى مقعدا لابنه. صورة الفرح الذي ارتسم على محيا الفتى لا يمكن أن يتخيلها عقل. حمل لافي المقعد على ظهره، وسار به إلى أعلى الجبل الذي تقع على قمته مدرسته الجديدة، ووضعه على أرضية صفه، وجلس ينتظر بكامل الفرح معلميه.

خمسة " كيلو مترات "اعتاد الطالب أن يقطعها يوميا ذهابا وإيابا، حافي القدمين حاملا كتبه وكسرات من الخبز وحبات من الزيتون الأخضر، وفي فصل الشتاء الماطر، كان يقايض ركوبه في الباص الوحيد الذي يحمل المسافرين من نابلس إلى طولكرم، مقابل بيضتين يقدمهما يوميا إلى سائق الحافلة الكهل .

وبتفوق أنهى التلميذ صفه العاشر، وانتقل إلى مدرسة الفاضلية، أبرز أوعية العلم في مدينة طولكرم، وسكن هناك من أجل توفير مصروفاته، ولقلة وسائل المواصلات الموجودة أنذاك. وأعتاد المسافرون أن يروا رجلا ضريرا يقف على جانب الطريق الرئيس ينتظر حافلة الباص من أجل أن يرسل مع سائقها إلى ولده أرغفة من الخبز الطازج.

حصل لافي على شهادة الثانوية الأردنية، وعمل مدرسا في مدارس: بيت مرين وقوصين وعنبتا وأخيرا رامين، وانتسب إلى جامعة دمشق، وحصل عام 1966 على بكالوريس في الفلسفة وعلم الاجتماع .

مكث في عنبتا عشرين عاما ، يعلم في مدارسها ، حتى أصبح واحدا من أبنائها الأعزاء، صوته الجهور، خطابه النقدي الحاد، جسده الضخم، عيناه اللتان تشعان إخلاصا وحبا وحنانا .

تعلمت وجيلي على يديه مواد: التاريخ والمجتمع العربي، واللغة الإنجليزية. كأني ما زلت أسمع عباراته "تمسكوا في كتبكم فهي السبيل إلى رفعتكم" ، "الفقر ليس عيبا، الجهل والتخلف والإستكانة هم الأعداء القتلة لمجتمعنا" ، "لوالدي الضرير وأمي العجوز، الفضل في أنني أقف أمامكم".

في عام 2004 بترت ساقه اليمنى بسبب معاناته مع مرض السكري، وعندما أفاق من " البنج " وقف أمامه تلاميذه الأطباء صامتين، شارحين له دوافع ما صنعته أيديهم. وطلب منهم إحضار رجله المبتورة ، ووافوه بها ملفوفة بالقماش الأبيض، احتضنها قائلا : "سامحيني أيتها العزيزة فقد حملتيني سبعين عاما، سنلتقي في الجنة بإذن الله تعالى" .وصلى عليها صلاة الجنازة، ودفنت تلبية لطلبه في إحدى مقابر القدس بجوار المسجد الأقصى المبارك.

في 12/3/2015 أسلم المقاتل سلاحه الدنيوي، وصعدت روحه إلى العلا، تاركة على أديم الأرض ثمار أربعين عاما من العطاء.

أيها النائم في تلال رامين لك الدعاء الذي لن ينقطع، لك الشكر الذي لا يزول، لك الوفاء الذي لا يخبو، لك الحب السرمدي، فإلى جنات الله الواسعات .

نص د. عدنان ملحم

🔲 لافي خليل بطل حقيقي ، ووقائع قصته من رحم الحقيقة .. شكرا لولده المهندس نضال لافي الذي سجل التفاصيل في كتابه " باع أرضه ليشتري مقعدا في صفه " .