نقاش في نظرية الوشاية وهيمنة الإشاعة

نقاش في نظرية الوشاية وهيمنة الإشاعة

نقاش في نظرية الوشاية وهيمنة الإشاعة

 

أمير مخول*

من المفيد عند قراءة حدث عظيم الأثر مثل نفق الحرية، أن نلتفت إلى عظمة اللحظة والرسالة، وهذا ما تمّ لغاية الآن. وفي المقابل، من الضروري أيضا الالتفات إلى بعض المَظاهر المرافقة لردود الفعل والتعامل مع بعض تجلياتها بشكل نقدي. سوف أتوقف هنا على اعتماد الشائعة، والتي أرى أن مصدرها الإعلام الاسرائيلي العدائي، والأخرى وهي الأخطر بنظري والتي لاقت تعبيرا محدودا عنها (رغم التهويل لها) في خطاب "التخوين"، وهو أيضا مبني على الدعاية الإسرائيلية، وسهولة التحول إليه وإلى الخطاب الطائفي وأحيانا العنصري داخليا. لقد مررنا مرّ الكرام على سهولة اتهام عائلة نصراوية بالخيانة والوشاية. انتهى الموضوع الإعلامي الشعبي، وجاءت رواية المُحرَّرين النافية، ورغم ذلك بقيت العائلة، والتي لا أعرف عنها شيئا، تعاني من الوصمة دون أية التفاتة، وحتى وإن قام ممثلها ببث تسجيل ينكر فيه كل ما ورد من اتهامات، فلم يكترث أحد، فالشائعة تحوّلت إلى أم البيّنات. سرعان ما انتشر خطاب التخوين بوتيرةِ تَسارُعِ الشائعات في عصر الفيسبوك والتيك توك، وبات الأمر وكأنّ الناصرة في خانة الاتهام، وأصدر البعض لوائح اتهام جماعية بحق فلسطينيي الداخل. وبسرعة فائقة انتقلت الحالة من نشوة انتصار إلى اتهام ذاتي وإلى التفتيش عن "الخائن". قد يكون أفراد سواء مغرضين أم لا، قد بادروا إلى الاتهام، وقد يكون للمؤسسة الاستخباراتية الإسرائيلية ضلع في ذلك باعتمادها أسماء مستعارة مضلِّلة على منصّات التواصل الاجتماعي، هذا وجرى تضخيم حجم المروّجين كما لو كان ظاهرة مميّزة للحالة العامة.

كان مصدر خبر "الوشاية" من التلفزيون الإسرائيلي. شخصيا كنت في تلك الأيام الصاخبة أتابع على مضض أحد أكثر البرامج الإخبارية فظاظةً بإدارة إحدى أهم الإعلاميين الإسرائيليين، أيالاه حسون، والتي خلقت الانطباع كما لو كانت تجلس مع محمود العارضة ورفاقه وهم يهندسون النفق. وأنها ومراسلوها يعرفون كل شيء، حتى أسماء "الوشاة" الذين اعتمدوا شخوصهم كي يكتمل المشهد كما تشتهيه المؤسسة الإعلامية. وعن "الوشاية" قررت المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية أن أحد أفراد عائلة نصراوية يخدم في الشرطة وكان، وبقدرة قادر، أوّل من طرق بابَه الأحرارُ ليطلبوا ماءً وطعاما، وهُم مرهقون، ولو استطاع الإعلام أن يقول "ليتسوّلوا" لفعل، فإعلام الحرب لا يتورع كما دولته عن شيء. وبثّ الإعلام أنّ هذا الشخص هو من وَشَى بهما للشرطة! ودعوا إلى حمايته من غضب الناس. لن أتوقف عند الإعلام العدائي ولا معركة الرواية التي ابتدعوها أمام انتصار فلسطيني، فقد تمت الكتابة عن ذلك، وإنما ما يستوقفني في هذا النص، هو مسألة "التخوين".

منذ دخول المشروع الصهيوني إلى أرض فلسطين سعى إلى تجنيد عملاء له، وتعزز الأمر بعد العام 1948؛ فقد اعتمدت إسرائيل العمالة والإفساد كسياسة، فكان الوشاة وكان الأذناب وكان المُخبرون، ومع الوقت تطور مفهوم العملاء خاصة في المناطق المحتلة عام 1967. هكذا فعلت أيضا فترة احتلالها لجنوب لبنان، إذ أقامت جيشا من اللبنانيين يخضع لقيادة أركانها، وهكذا فعل كل استعمار والمثال الأبرز كان الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وقد انتقل معظم العملاء للعيش في فرنسا بعد انتصار الجزائريين في حرب التحرير. كما نقلت إسرائيل آلاف العملاء الذين شغّلتهم ليعيشوا داخل "الخط الأخضر" في أعقاب قيام السلطة الفلسطينية في تسعينيات القرن الماضي. في الانتفاضة الثانية، ولكونها تحوّلت إلى مسلّحة ونتيجة لسقوط آلاف الشهداء الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، واتساع نطاق المطاردات لهم والحاجة إلى اللجوء إلى مأوى يحميهم خلال اقتحامات جيش الاحتلال، ومن ثم الخروج لمواجهته؛ فقد تعاظمت الحاجة إلى كتمان السرّ لعدم الكشف عن أماكن تواجدهم، وكان دور أساسي في ذلك للأمهات المؤتمنات على سلامة أبنائهن ورفاقهم، وكأنهم أبناؤها، مقابل العملاء الذين شغّلهم الاحتلال. فقد انتشر بشكل خطير خطاب التشكيك والتخوين، والذي تبعته أعمال تصفية. نتج ذلك عن ضائقة وضرورة، لكنه تحوّل مع الوقت إلى مناحٍ راح ضحيتها الأبرياء الذين قتلوا على أساس الشك أو الافتراض أو تصفية الحسابات الشخصية. هذا تعلمته أيضا من مناضلين أسرى الانتفاضة الثانية الذين التقيتهم في السجن وكانت علاقتنا متينة، وغالبيتهم من كتائب شهداء الأقصى، الذين استشهد زملاؤهم، بينما هم صدرت بحقهم أحكام احتلالية بالسجن المؤبد مدى الحياة. لقد انطبعت في ذهني عميقا، قصة البعض منهم دون ذكر العدد والبلدة، وكيف أنهم التواقون للحرية، متصالحون مع أنفسهم فيما يتعلق بالسجن جراء مقاومتهم، وكانوا يدركون أن مصيرهم سيكون إما الشهادة وإما السجن مدى الحياة. قام بعض هؤلاء خلال مقاومتهم للاحتلال بقتل امرأة "عميلة للاحتلال"، وتبيّن لهم فيما بعد أنها امرأة وطنية ولا علاقة لها بالعمالة لا من قريب ولا من بعيد. يملؤهم الندم فقط تجاه هذه القضية وليس تجاه الحكم مدى الحياة، وكان يكفيهم التشكيك والشائعة للقيام بذلك. ومثل هذه الحالة انتشرت بشكل كبير وبأشكال مختلفة حتى داخل الحركة الأسيرة، وهي واحدة من حالات مأساوية متكررة، تغذي ذاتها وتأخذ منحى ملاحقة العدو الداخلي من باب الظنّ، بدلا من العدو الحقيقي، ويصبح الإحباط والإخفاق مسيطران.

أعتقد بوجود حاجة إلى دراسة تخصصية في مجال علم النفس الاجتماعي لتشخيص السلوك والحالة المعنوية التي رافقت النفق، إذ ربما بنينا من نفق الحرية أسطورة بسرعة فائقة، وهذا حقّ وشرعي وإنساني وهو شعور كل الناس، وبالذات أمام الاختلال الهائل في توازن القوى؛ لكن كان نوع من التقليل من قدرة الاحتلال ودولته، وقد تكون الشائعة والاتهام والتخوين نمت على هذه الخلفية، أو أنّ الطبيعة البشرية في حالة التوتر القصوى أو النشوة بالأمل أو السعي إلى حماية المحرَّرين الستة ولو في مخابئ الوجدان، تكون هي الأرضية السهلة نسبيا لانتشار الإشاعة وتصديق حتى أنباء تلفزيون بلاط القهر الإسرائيلي.

التحريض على الطائفة الدرزية

من المبالَغ فيه الحديث عن أجواء فتنة طائفية داخل مجتمعنا، هناك مظاهر صحيح، لكن مجتمعنا لم يكن يوما منظما على أساس طائفي ولا على أساس تناحري. أحد الأدلة لذلك هو أن إسرائيل سعت إلى إثارتها كي تقطف ثمارها بالهيمنة والسيطرة وتفكيك المجتمع الفلسطيني. وفي هذا السياق سعت - كمشروع دولة - إلى فصل الدروز عن العرب، بعد أن فرضت عليهم الخدمة العسكرية الإجبارية. ومن ثم الفصل في منهاج ومنظومة التعليم، وكذلك في الثقافة، في مسعى تآمري تاريخي على الدروز ضمن مسعى تآمري على كل الوجود العربي الفلسطيني في البلاد.

منذ اللحظة الأولى لتفعيل قانون الخدمة العسكرية، ظهرت مقاومته والسعي لإبطاله. وهناك حركة مقاومة تاريخية ومؤثرة لهذا النهج السلطوي ولسالكي دربه. وهناك محاربة للتجنيد القسري الإلزامي، وهناك الكثير ممن دفعوا ويدفعون ثمن هذا الموقف بالسجن والملاحقات. وهناك من هم في طليعة أدب المقاومة وفي المؤسسات الوطنية، وهناك لجنة المبادرة الدرزية وحركة المعروفيين الأحرار، وحركة التواصل، وحراك ارفض شعبك بحميك، كما وهناك الروابط الاجتماعية العميقة والأصيلة التي تميّز مجتمعنا بمختلف فئاته وطوائفه، والتي تبقى الأساس الأقوى.

*كاتب وأسير محرر من الداخل