صَفحاتٌ لم تُقرأ بعد

صَفحاتٌ لم تُقرأ بعد

بقلم: صلاح الدين العواودة

١٧ نيسان من كل عام يمر على الكثيرين كأي يوم لكنه ليس كذلك لمئات الآلاف من الفلسطينين الذين عاشوا تجربة الأسرى المؤلمة، وصفحات كثيرة من ظلمات السجون ظلت طي الكتمان ولم تقرأ لأحد، والسبب الأول اضافة لأسباب كثيرة هو حرص الأسرى على تصدير صورة مطمئنة لأهليهم ولا سيما أمهاتهم وهي صورة خادعة موجهة وليست كاملة بأحسن الأحوال.

في شهر حزيران من العام ١٩٩٤ وفي ذروة اتفاقيات أوسلو نقلتني مصلحة السجون من سجن عسقلان المركزي الى سجن جنيد المركزي شمال مدينة نابلس، وكعادة إدارة السجن وكنوع من الإرهاب الذي تمارسه على كل قادم جديد وضعتني في زنازين العزل الانفرادي في الطابق التحت أرضي لمدة أسبوع، كان مضى على اعتقالي سنة وشهران تقريبا ولم أكن أشعر بعد بماينتظرني؛ وكنت آسف فقط على حجم الترقب والاحباط والشعور بالخيبة لدى أسرى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الذين صدمهم مرور قطار أوسلو عنهم!

وفي الزنازين حيث لا جليس من الانس، والايام طويلة، تنتظر فرصة رؤية أو سماع صوت كلبشات او سلاسل المفاتيح وهي ترتطم بصفائح الأبواب أو أي إنسان يمر أو يتحدث في زنزانة قريبة، لتحاول الحديث معه من باب تغيير الجو وللخروج من الحوارات المطولة مع الصراصير.

في اليوم التالي وفي موعد توزيع الطعام، لفت انتباهي شخصٌ دلني انحناء ظهره وبياض شاربية الذي خالطه صفار السجائر على انه تجاوز الستين، فوضع الأكل مسرعا خلف باب الزنزانة وانصرف، فظل عالقا منظره اللافت في ذهني مستدعيا كثيرا من التساؤلات لدي، هل هو أسير؟ ام سجين جنائي؟

وبقيت انتظر عودته لجمع النفايات حتى عاد،

فبادرت لالقاء التحية مستدرجا اياه للحديث معي؟

من اين حضرتك؟ اجبني واثارني باجابته،

منذ متى في السجن؟

أجابني: منذ ١٩٧٠ !

"شووووو" رددت عليه ودهشتي تبدو صدمة!

فالرجل في السجون قبل أن أولد!

كان ما تبقى من أسنانه يدل على عام ١٩٤٨ وأنه من جيل ما قبل النكبة، ظننت انه لا يقول الحقيقة او أنه عصفور(عميل في ثقافة الأسرى)

سألته كم حكمك وعلى ماذا حكمت ولماذا انت هنا في الزنازين وامطرته بوابل من الأسئلة... ما هو تنظيمك ما هي قضيتك!؟

أين امضيت هذه السنوات كلها.......

بدأ بالحديث وأجاب أنه كان في عسقلان وبئر السبع وووووو

"طيب شو قصتك شو تنظيمك" وكان يبدو من كلامه انه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، ولا سيما لما سألته عن تنظيمه هل انت "فتح" ام "جبهة" أم.....

فأجاب أنا مش مآمن بكل هاي المسميات (المنظمات)

وإذا به من بقايا جيش التحرير الشعبي الذي انشأته منظمة التحرير في الستينات، وبين الشعور بالدهشة من جهة والريبة من جهة أخرى واصلت الحديث عنه، لماذا لا تعيش في السجون مع باقي الأسرى؟

فبدأ بالسبب والشتم على قادة كبار من قادة الحركة الاسيرة اضافة إلى قادة كبريات فصائل منظمة التحرير الفلسطينية فهو لا يعرف عن حماس بعد.

بين الدهشة والريبة تحدثت معه مطولا وحاولت أن أعرف أكبر قدر من المعلومات عنه كي اسأل عنه عند عودتي للاقسام، ولكن بقدر ما أكد لي بحديثه أنه فعلا منذ ٢٤ سنة في السجون وأنه أُمي أكد لي أيضا أنه ليس سويا وأنه يعيش حالة مرضية، وأن عقله لم يعد يسعفه.

بعد أيام صعدت إلى اقسام السجن، التقيت بقدماء الأسرى من أمثال الحج أبو السكر والذي لم يكن بعد قد مضى بعد على اعتقاله سوى ١٨ سنة،ونائل البرغوثي الذي لم يمض عليه في السجون الا ١٦ سنة وهي أرقام لا شك مرعبة لشاب حكم مدى الحياة قبل أشهر فقط، وللخروج من الحيرة والشك سألت الحج أبو السكر رحمه الله عنه فأجاب بنعم أنه يعرفه وأنه يعيش حالة مرضية بين الاضطراب العقلي والشك بمن حوله والشعور بأنه ملاحق ومتهم وأنه هرب من اقسام السجن إلى العزل منذ بداية الثمانينات!

هذا الرجل وهذا الاسير لا يعرفه الا فئة قليلة من الأسرى ومن عائلته القريبة، ولا يحسن بي أن أذكر عنه أكثر من هذا، فقد انهى حكما بالسجن أكثر من ٣٠ سنة وافرج عنه ومات دون أن يذهب أي مسؤول ليلتقط معه صورة ودون أن يتعهد أحد بعلاجه!