ثلاثة: لا السجن اعتقلهم ولا المشنقة قتلتهم...وهذا هو السر...

ثلاثة: لا السجن اعتقلهم ولا المشنقة قتلتهم...وهذا هو السر...

في يوم رحيله الفاجع نعيد نشر مقالة ادبية للزميل الإعلامي الكبير المغفور له الدكتور سعيد عياد والتي كتبها ونشرها الراحل في شهر ايلول الماضي، احتفاء بزيارة فريدة قام بها للداخل الفلسطيني وزار خلالها مدينتي حيفا وعكا، وحضر نقاشا لعمله الأدبي الأخير "المهمشون "

 

ثلاثة: لا السجن اعتقلهم ولا المشنقة قتلتهم...وهذا هو السر...

د. سعيد عياد

ببطء أخذت السيارة تركن في المرآب بجانب سور قرّ في عينيّ تاريخيا... نظرت إليه في حبور فانشرح صدره وكأنه علم أن الآتي في قلبه اشتياق قديم، وفي عينيه حلم يبحث عن سرّ الحياة... فلا كتب التاريخ من قبل أبلغت، ولا الشعر الباهر أقنع ولا أغنية بنغمة بحر أشبعت روحا تبحث عن سرّها...

فتحت باب السيارة بيد وجلت رهبة من قداسة ستتجسد بعد لحظات.. في الخارج شمس تقطر دمعا على جسدي المرتعش... عينا صديقي أ. فؤاد نقارة.. وهو صاعد درجا قصيرا كانت تبحث عن ثلاثة كتبوا أسماءهم على الشمس وفوقها فتجلّى تحت الشمس وطن أزلي كانت حروفه الستة نطقت منذ آلاف السنين لا يتسع لها سماء ولا أرض: أنا وطن وجدت لأكون...

خلفه كنت أسير بدقات قلب توضأ بذرات تراب هبّت من مرقدها للتو تقول لي: بغير تراب عكا لا صلاة... علقت ذرة في فمي فبلعتها وإذا باب السماء في الأعلى ينشق وجاء صوت عبر الفضاء يهتف: تقدم.. تقدم.. تقدم.. تنفست روحا أخرى.. وبعد خطوات تظللنا بشجرة تين ووقفنا نوسّع البصر نبحث عن الثلاثة الأجلّاء.. لكن البصر قاصر.. هل تهنا تساءلت في صمت؟ بجواري حيث أقف اسم على شاهد راقد صاحبه منذ مائة عام... وإلى جانبه اسم آخر نائم منذ مائة عام أخرى.. هنا في بقعة صغيرة تحت الشمس تاريخ أطول من عمر السّيف السّاقط من غيمة سوداء أتت من وراء بحر من أرض باردة... مضينا بخشوع بين دروب الأسماء الصامتة.. خلت أنها تخاطبني همسا: لا تحزن فنحن هنا لنستريح... تبسّمت أخفي جرحا لم نخيطه حتى الآن.. ولكن صوتا من أعماق التراب هتف: أتدري يا صاحبي لقد خبّأت قاربي بجانب السور الجنوبي وغطيته برمل البحر.. فبالله عليك أبلغه السلام وقل له: إني آتٍ إليه ذات يوم قريب لنبحر نستعيد كل ما سرقوه... هللتُ وركعت بخشوع... سألنا أين الثلاثة الملائكة؟ قالوا لنا انظرا إلى الجنوب فهناك أشجار سرو باسقة..؛ هناك يرقد الوعد القادم.. جلجل جسدي وسرت فيه نبضات بحر قريب... لم تعد قدماي تقدر على ثقلي.. فخشيت أن تخطفني نوبة فلا أتقدّس بسرّ إلهي لا يأمن عليه الله إلا أنبياء بعد رسل.. بعينين شاخصيتن وبقلب خاشع وبروح متلهفة وقفنا على بلاط أبيض نغرق في الأسماء المقدسة: فؤاد حجازي... عطا الزير.. محمد جمجوم..أسماء كتبتها ملائكة الله بماء الكوثر.. وصلّت عليها في السماء. واحتفظت بها في أكناف الإلاه ليوم ظهر على وجه الشمس يهتف: أنا يوم الوعد الأكبر. في هذه اللحظة شعرت بفخر وقلت لنفسي: لا تهن فيكفي أني فلسطيني له وطن في الأرض والسماء... بعد وقت من الزمن الخاشع.. غادرنا وعلى حافة الصمت تزلزلت مراقد الروح وسمعتها تقول معا : نحن الثلاثة لم يأسرنا معتقل ولم تقتلنا مشنقة إنا قادمون... نظرتُ إلى سور عكا وإلى جامعها العظيم وإلى جرس كنيستها العالية وإلى صيّاد يلتقط صنارته.. ثم إلى البحر الواسع وتذكرت نابليون.. فعدت وقلت لنفسي والله لو لم أكن فلسطينيا ما تخليت عن صلاة حتى يخلقني الله من جديد لأكون فلسطينيا...