النظام الدولي الجديد.. بين الهيمنة والتوازن

النظام الدولي الجديد.. بين الهيمنة والتوازن

النظام الدولي الجديد.. بين الهيمنة والتوازن

 د. محمود خليفة- سفير دولة فلسطين لدى بولندا
يتميز الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، بوضوح غير مسبوق في سياسته الدولية، غير المرتكزة على قواعد صلبة، تشيع حالة من عدم الاستقرار والتوترات في العلاقات الدولية، حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. وقراراته المفاجئة وغير المتوقعة تضعف الآليات المؤسسية التقليدية، مما يثير تساؤلات حول مستقبل النظام العالمي. 
بكلمات أخرى، فإن "الترامبية"  تُشكل تحديًا للاستقرار وفقدان القابلية للتنبؤ في العلاقات الدولية.
في العقود الثلاثة الأخيرة، أصبح هذا المشهد الفوضي أكثر وضوحاً، مما هدد  وأضعف التوازن التقليدي للقوى.
تراجع المؤسسات الدولية التقليدية أمام استراتيجيات القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تسعى لتعزيز هيمنتها من خلال استغلال الأزمات العالمية أو خلقها، للخروج من أزمتها الاقتصادية الخاصة.
ومع غياب بدائل فعّالة لتحقيق التوازن، يبقى النظام الدولي هشًّا وأكثر عرضة للفوضى، مما يثير تساؤلًا رئيسيًا: هل تكمن المشكلة في قوة أمريكا أم في ضعف العالم؟
عززت واشنطن من قوتها على ظهر حربين عالميتين، من خلال الاقتصاد في البداية، ثم بالقوة العسكرية والتكنولوجيا فيما بعد. ما أدى إلى تغييرات في التوازنات العالمية، وما زالت هذه العمليات مستمرة اليوم مع  بروز حالة "الترامبية"، ما يساعد على بروز الأزمات والتوترات في مختلف أنحاء العالم.
اليوم، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات كبيرة في ظل الأزمات الداخلية والتوترات السياسية والانقسامات بين الدول الأعضاء. هذا الوضع يؤدي إلى تراجع تأثيره كقوة في النظام الدولي. على الرغم من جهود فرنسا وألمانيا للحفاظ على وحدة الاتحاد، فإن التحديات الاقتصادية والصراعات الإقليمية، وخاصة الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى صعود اليمين في أوروبا، تهدد استقرار الاتحاد الأوروبي.
وتواجه رئاسة بولندا لمجلس الاتحاد الأوروبي في عام 2025 العديد من التحديات. ورغم التوافق العام على دعم أوكرانيا، إلا أن هناك انقسامات واضحة بشأن العقوبات المفروضة على روسيا، واحتمال إنهاء الحرب من خلال تسوية قد تقترحها الولايات المتحدة، وربما تكون أكثر غرابة من مقترحاته بخصوص ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة "ترامبسفير". علاوة على ذلك، تعزز ضعف أوروبا في معالجة القضايا الدولية الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، الشكوك حول قدرتها على أن تكون لاعبًا رئيسيًا على الساحة العالمية.
في ظل هذه التحولات، يواجه العالم العربي تحديات متزايدة، حيث أدت التدخلات الخارجية، وخصوصاً الأمريكية، إلى تفاقم الانقسامات وضعف الاستقرار. فقد اتَّبَعَتْ واشنطن سياسة إضعاف الدول العربية من خلال دعم تحالفات انتقائية، وتجاهل الحلول العادلة للنزاعات، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. استمرار النزاعات في اليمن والعراق وليبيا والسودان وسوريا ولبنان يعمّق الانقسامات ويُضعف تمثيل العالم العربي على الساحة الدولية. في هذا السياق، يصبح تعزيز التعاون الإقليمي وإعادة تعريف الاستراتيجيات السياسية تجاه القوى الكبرى أمرًا بالغ الأهمية.
العالم الجديد الذي تسعى إليه أمريكا، لا مكان فيه لأي طرف آخر سواها!. ما الحل؟ 
التوجه نحو مزيد من الاستقرار وتعزيز التنمية، والخروج من حالة الركود الاقتصادي العالمي، من الضروري إعادة تشكيل التحالفات الدولية وتعزيز التعاون الإقليمي، بالإضافة إلى فتح آفاق جديدة للتعاون مع أوروبا وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. هذا التحول قد يسهم في تقليل الاعتماد على القوى العظمى، مما يمنح الدول جميعها، بما في ذلك الدول العربية، فرصة أكبر للمناورة في القضايا الإقليمية والدولية، للحفاظ على الاستقرار العالمي.
في هذا الوضع ، يواصل  الاحتلال الإسرائيلي سياساته التوسعية مدعوماً من الإدارة الامريكية، عبر الاستيطان والتهجير القسري، مما يزيد من تصاعد التوترات.  مستغلة ازدواجية المعايير الدولية والدعم الأمريكي غير المشروط، تفلت إسرائيل من العقاب. وكما كان متوقعًا، فإن عودة سياسة "الترامبية" إلى البيت الأبيض، زادت الضغط على الفلسطينيين، وليس أقلها تصريحات ترامب الأخيرة حول تهجير الفلسطينيين "ترامبسفير"  وصفقات "شراء" قطاع غزة الغريبة، مِنْ مَنْ؟ وكيف؟ ومتى؟ وما هي الأسس؟ تبقى أسئلة دون إجابة، سوى أن المنطقة مقبلة على تصعيد جديد غير مسبوق.
في مواجهة هذه التحديات، تعمل القيادة الفلسطينية على تعزيز جهودها الدبلوماسية، من خلال تعزيز وبناء تحالفات جديدة مع دول مثل جنوب أفريقيا ودول مجموعة الـ77 والصين، ومع روسيا وأوروبا وبعض الأوساط في الولايات المتحدة. ويساهم الدعم الشعبي الدولي للقضية الفلسطينية، الذي يتجلى في الاحتجاجات ضد الجرائم الإسرائيلية، في زيادة الضغط على الحكومات لتبني مواقف أكثر قوة تجاه الاحتلال.
غياب الضغط الغربي الفعّال، وانحياز الإدارة الأمريكية لإسرائيل، يسمح لإسرائيل تصعيد سياساتها دون رادع، مما يزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، فإن سياسات رئيس الوزراء نتنياهو التي تعتمد على المواجهة والتصعيد تواجه انتقادات متزايدة حتى من حلفائه التقليديين، وأسهمت في زيادة عزلة إسرائيل على الساحة الدولية.
الولاية الأولى لترامب (2017-2021) أغلقت الأبواب أمام السلام المطروح عربياً عام 2002، مقابل "التطبيع" الذي أرادته إدارة ترامب، المخدوعة إسرائيلياً، "تطبيعاً مجانياً" بين إسرائيل وبعض الدول العربية في عام 2019.  تبدو الفوضى الشاملة التي تتجاوز حدود المنطقة، أكثر ما يميز الولاية الثانية (2025-2028).
"الترامبية" غيَّبَتْ المؤسسة الأمريكية على جميع مستوياتها، والأخطر محاولات القفز على الشرعية الدولية؛ يعاني النظام الدولي من حالة تغول، مما يؤدي إلى تحولاته إلى واقع ضبابي يتسم بسياسات تفجيرية، وتحولات غير متوقعة، وخلط للأوراق.
يمكن لـ "نتنياهو" وترامب أن يدعيا ملكيتهما للعالم بأسره، وليس فقط لغزة، إلا أن الإدارة الأمريكية تفتقر إلى تأثير حقيقي على الفلسطينيين الذين افترشو أنقاض منازلهم في غزة، محافظين على أهم ما يمتلكونه، هويتهم الوطنية، والتي تشبه بالتأكيد حبات رمل غزة، فهي ليست للبيع أو للمساومة. 
يبقى حل الصراع في الشرق الأوسط، بما في ذلك الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، اختبارًا لقدرة المجتمع الدولي على تحقيق الاستقرار. فنجاح هذا الحل لا يؤثر فقط على استقرار المنطقة، بل على مستقبل النظام الدولي بأسره، وربما يكون حلاً للأزمات الاقتصادية الصعبة التي تواجهها أمريكا.
يتطلب النظام الدولي الجديد إعادة تقييم التحالفات الحالية وبناء نظام متعدد الأقطاب قائم على الشراكة المتكافئة، بدلاً من هيمنة القوى الكبرى. إن حل النزاعات الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط الصراع الأطول في التاريخ، وتنفيذ حل الدولتين يمثلان عنصرين أساسيين في بناء عالم أكثر استقرارًا وسلامًا.
قد يكون عام 2025 عامًا مفصليًا في إعادة تشكيل النظام الدولي. فإما أن يستمر العالم في الغرق في الفوضى والتوترات، أو أن يتم تطوير آليات جديدة للتعاون والتوازن تمنع نشوب صراع عالمي جديد


Share: