هذا زمان الشد فاشتدي
![هذا زمان الشد فاشتدي](https://khabar24.net/storage/2026/70173779-c222-4371-8187-f9db3faf2f49.webp)
مؤيد شعبان
على مدار الأسابيع الماضية أعيش لحظة خانقة إلى جانب أهلي وشعبي من اجتياح غير مسبوق لطولكرم ومخيماتها وضواحيها، اكاد أجزم أنه اجتياح غير مسبوق: غير مسبوق في أهدافه الخطيرة وغير مسبوق في إمعانه في الاعتداء، وغير مسبوق في إمعانه في التدمير، وعلى مدار الأسابيع الماضية، ألحظ جملة واحدة تتردد على ألسنة من أضطرهم بطش الاحتلال على ترك الاحياء والمنازل في المخيمات والرحيل إلى أماكن أخرى، هذه العبارة أنتجتها تجربة طويلة من الفلسطينية العظيمة والصادقة، هذه الفلسطينية المتينة الصلبة التي لا تتنازل ولا تخضع ولا تركع، كان لسان حالها يتردد دائماً: سنعود، سنعود إلى الغرفة الضيقة والحي المكتظ، سنعود إلى الباب الذي خلعته العاصفة والشباك الذي أردته الدبابة والطائرة، حتى بت في كامل قناعتي أن فكرة الترحيل والتهجير وهي محض فكرة، تضغط باستمرار على وعي الفلسطيني وتشحذ همته، فعبارة: "سنعود" هي العبارة الأكثر إرعاباً في ذهن الكيان المدجج بالنار والكراهية والرصاص، ترعبه وتبعثر مخططاته استمرار.
وإذا كنت قد رأيت في الأسابيع الماضية مشاهد الترحيل القسري من المخيمات، بالمئات والألوف، مواطنين اضطروا للمغادرة، تحت ضغط لحظة الحقد الكبيرة، إلا أن هذه المشاهد أنتجت إلى جانبها ما يمسح حزن الرحيل الاضطراري المؤقت، ويعيد انتاج الفكرة الأسمى بالتعاضد الذي سرعان ما ينفجر كحالة رديفة لكل لحظات عنق الزجاجة التي نختبرها هذه الأيام.
فمن مشهد استضافة البيوت الضيقة لعشرات النازحين، واقتسام الخبز والدواء والهواء معهم، بكل ما في هذا المشهد من دفء حنو الفلسطيني على الفلسطيني في أكثر لحظاته قتامة وصعوبة، أستطيع أن أجزم وبكل ما في قلبي من إيمان أن شعباً فيه هذه الأصالة شعب مصيره أن ينتصر.
ومن مشهد البحث عن المحتاجين، في كل الزوايا، وكل الذين تقطعت بهم السبل الضيقة في زوايا المحافظة، رغبة بالحصول على شرف المساعدة ورفع الضيق، أدركت تماماً أن شعباً فيه هذه الروحية شعب لا ينهزم.
ومن مشهد المطابخ الجماعية التي يقيمها ويديرها ويزودها شبان فلسطينيون لا يريدون شيئاً سوى أن ترفع الغمة وتكسر يد الجلاد أدرك تماماً أن شعباً فيه هذه البذرة المنيرة شعب مستقبله عظيم.
لقد أراد الاحتلال من جملة التدمير الممنهج والهدم الحاقد أن يعاقب الفلسطيني ويكوي وعيه ويحرضه على أحلامه وشعاراته، ولطالما كانت يد الفلسطينية الحانية وصدره الواسع ومشاركته إخوانه بما تيسر هي الكفيلة بكسر المخطط وإحباط الأجندة.
لقد كان مشهد التكاتف الشعبي، والالتفاف الجماهيري، والوعي النقي الذي أعاد الاعتبار لقيم أرعبتنا فكرة فقدانها وخسارتها وتجاوزها، النقطة المضيئة الأهم التي لطالما اعتبرناها جسراً لعبور عنق الزجاجة ويد تطبطب على الوجدان الفلسطيني بكل جروحه وأحزانه وآلامه هذه الأيام، وإذا كان ثمة شيء يجعلنا نتجاوز المحنة بكل الصلابة الوطنية هي ملحمة التكاتف الشعبي التي رسمتها همة شبابنا، والتي تجاوزت المحافظة إلى محافظات أخرى تعمل بمنطق خلايا النحل، ترصد الاحتياجات، وتوجه العنفوان الشعبي الذي يريد أن يساعد ويقف إلى جانب شعبه، لا يهمه أين ومتى، لكنها يريد أن يقف ويكتب موقفاً لا ينساه الإنسان والتاريخ.
لقد فرض، على الكل الفلسطيني، في قطاع غزة، وفي شمال الضفة ووسطها وجنوبها وقدسها وأغوارها ومسافرها وبراريها ومزارعها، هذا العدوان، الذي يراد له هذه الأيام أن يحطم كيانيتنا الوطنية بالاعتداء على المخيم بكل ما فيه من حلم بالعودة، وعلى المدينة بكل ما فيها من سيادة وعلى القرية بكل ما فيها من أفق وامتداد وعمق، لكن الفلسطيني اليوم، سيفرض منطقه على منطق الاعتداء، منطق يقوم على التكاتف والتعاضد باليد التي تشد بعضها البعض، بقوة وصلابة وصبر.