حمصة.. صمودٌ حديدي أمام محاولات الهدم،،
![حمصة.. صمودٌ حديدي أمام محاولات الهدم،،](https://khabar24.net/khabar24/public/storage/health/1963994409.jpg)
بقلم: يمنى حميدة - السابعة والنصف صباحًا بتوقيت القدس المحتلة، تعتادُ مدينةُ رام الله في مثلِ هذا الوقت من يومِ الجمعة أن يعمَ الهدوءُ أرجاءَها، فيما كنت في هذه اللحظات أنتظرُ الحافلة التي ستنقلني إلى الأغوار الشمالية، إذ قمتُ بالتسجيل مع مجموعةٍ تطوعيةٍ تُدعى "همم" التي تعتاد في كل جمعةٍ من الأسبوع أن تذهبَ لزيارة المناطق المهمشة والمهددة بالاستيطان لتعزيز صمود الفلسطينيين فيها.
بينما كنت أتأملُ الطيورَ المتجمعة في دوار الساعة وسط المدينة، أتت الحافلةُ أخيرًا وصعدتُ لأخوضَ مغامرةَ الوصولِ إلى خربةٍ ما زال الاحتلالُ يستهدف مواطنيها، بعدَ ساعةٍ قضيناها في الطريق وصلنا إلى منطقةِ الأغوار الشمالية، إنها جنةُ الله على الأرض فأينما أدرتَ وجهك تنبهرُ من جمال الخَضار الذي يكسو أراضيها، بعدَ مرورنا عن عدة مناطق وتجمعاتٍ نزلنا في مكانٍ قريب من الخربة المقصودة، وأكملنا الطريق مشيًا على الأقدام خوفًا من أن تستهدفنا سلطات الاحتلال وتقومَ بمصادرة الحافلة التي جئنا بها، الطريقُ طويلةٌ ومتعبةٌ في ذاتِ الوقت، لكن عليك أن تتخيلَ أن هذه الطريقَ الطويلة يسلكها أطفالُ الخربة يوميًا حتى يستطيعوا الوصولَ إلى الحافلة التي ستنقلهم إلى المدرسة، عليك أن تتخيل أيضًا المعاناة التي يعانيها سكان الخربة أثناء سيرهم فيها فصلَ الشتاء.
وصلنا الهدفَ المنشود.. "خربة حمصة الفوقا" المقامة على سهل البقيعة الذي قسمته دولة الاحتلال إلى قسمين: الشرقي والغربي، وحمصة هي أحدُ تجمعات سهل البقيعة الشرقي الذي تبلغ مساحته 60 ألف دونم، وبمجرد دخولكَ إلى حمصة ترى خيمًا مهدومة، ورجالًا ونساءً خيمَ الصمتُ على وجوههِم، يرفضون مشاركةَ الحديث، يقول أحدهم: "ماذا ينفعُ الكلام؟"، عدا عن علاماتِ الاستغرابِ التي تبدو على وجوهِ أطفالهم.
منذ عام النكسة، ومناطق الأغوار تعاني ويلاتٍ من الاحتلال الإسرائيلي، إذ ابتدعوا سياساتٍ عدة كان أولها حجز راعيي الأغنام وتقديمهم للمحاكم العسكرية وإجبارهم على دفع غراماتٍ مالية وصلت ل 1000 دينارٍ أردني، ولم يكتفوا باستهداف الراعيين فاستهدفوا أغنامَهم أيضًا وقاموا بحجزها في منطقةٍ أُطلق عليها اسم "الكارنتينا" لإجبار أصحابها على دفع غرامةٍ مالية تصل إلى 11 دينار أردني على الرأسِ الواحد مقابلَ استردادها.
إن كنت تتجولُ في حمصة فسيسحركَ إلى جمالِ طبيعتها الخلابة براءةُ أطفالها، الأطفالُ الذين سُلبت منهم أبسطَ حقوقهم، وصمود نسائها ورجالها أمام محاولاتِ الهدم والتهجير. بينما كنت ألتقطُ بعض الصور للمكان، ألفتني وجودُ رجلٍ كبير السن وبيده سيجارةٌ جالسًا دون أن يحركَ ساكنًا، ذهبتُ إليه وسألته إن كان بإمكانه أن يروي لي كيف هي الحياةُ هنا، أدهشتني فصاحة لسان هذا الرجل الذي يُدعى "أبو صقر" أحد سكان خربة الحديدية التي تقعُ إلى الشمال من خربة حمصة، يأتي يوميًا ليساندَ أهالي الخربة.
يروي أبو صقر حكاية الخربة وسياسة الهدم التي اتبعتها دولة الاحتلال منذ عام 1997 بحق منطقة الأغوار، إذ كانت تأتي قوات الاحتلال وتهدم الخربة بكل مقتنياتها، ولم يبقَ على المواطن إلا أن يعيدَ بناءَها مرةً أخرى، بقى هذا الأمر حتى عام 2013، ومن ثم بدأت سلطات الاحتلال تعلن الخربة التي يتم هدمها منطقةً عسكرية مغلقة، وتقوم بمصادرة كافة مقتنياتها وتمنع الدخول إليها للتنكيل بالسكان وإجبارهم على الرحيل، عدا عن استهدافهم للمياه لصالح المستوطنات، حيث تمنع المواطنين من حفر الآبار لاستغلال هذه الأراضي التي تعد أراضيَ خصبة للثروة الحيوانية والنباتية، وسلة الغذاء الأولى لفلسطين كاملة.
كنت جالسًة وكامل حواسي صاغية لهذا الرجل من بلاغة كلامه، إذ بدأ يروي لي بساطة الحياة هنا في حمصة، فتربيةُ الأغنام وحراثة الأرض لزراعتها جزءٌ أساسي من حياتهم اليومية، إذ أن مواطني الخربة تعود جذورهم إلى بلدة السموع قضاء الخليل الذين أتوا إلى هذه المناطق لخصوبتها وصلاحيتها للثروة الحيوانية والنباتية، وحول البنية التحتية في حمصة أضاف أبو صقر: "حمصة والتجمعات المجاورة تفتقر لخدمات البنية التحتية، والمراكز الصحية والتعليمية، فالمواطنون يسلكون طريقًا طويلةً للوصول إلى الشارع الرئيسي لنقلهم للمراكز الصحية والتعليمية، كما يتم الاعتماد على الطاقة الشمسية لإتمام احتياجاتهم، أما بما يتعلق بالمياه، فعلى الرغم من أن هذه المناطق هي وليدة المياه إلا أنه يتم شراء الكوب الواحد بقيمة 35 شيقل".
أخذنا الوقت أثناء الحديث، وتمنيت لو أنني أملك وقتًا إضافيًا لأستمتع بجلسته الغنية بالمعلومات، لكن سرعان ما أخبرني أحدُ الزملاء بأننا سنغادر الخربة، صعدنا الحافلة ورافقنا رجلٌ عرفت الأغوار بشهامته ومساندته لها، رجلٌ قوي الصوت والحنجرة، تصلُ كلماته إليك فتحيي فيك روح المقاومة، بدأ يخبرنا هذا الناشط الذي يُدعى "أيمن الغريب" عن صمود المواطنين هنا في ظل الهدم المتكرر لها، يقول أيمن: "كل مرة تأتي قوات الاحتلال تقوم بهدم حمصة هدمًا بربريًا، حتى بيوت الحيوانات قاموا بتكسيرها، عدا عن مصادرة المقتنيات، وحجز السيارات والتراكتورات لمدة معنية مقابل دفع مبلغ مادي لاستردادها مع كتابة تعهد لمنع مروروها من المنطقة العسكرية المغلقة، فلا يمكن لسهل يتمتع بكل هذه الخصوبة أن يتحول إلى منطقة عسكرية مغلقة، إلا أنهم يستخدمون هذه الحجة لترهيب المواطنين وإجبارهم على الرحيل".
غادرنا المكان، فيما بقيت هذه العائلات تصارع وحدها لمقاومة الاحتلال، والحفاظ على تلك الأرض التي تعتبر العائلات نفسها حارسًا عليها على الرغم من أنها محاطةٌ بالمستوطنات والمعسكرات من كل جانب، إذ يحدها من الغرب ما تسمى بمستوطنة "بقعوت" و "روعيه"، ومن الشمال ما تسمى بمستوطنة "حمدات" ومعسكر "امزوقح"، ومن الشمال الغربي "معسكر سمرا".
في كلِ يوم تشهد حمصة دخولًا مفاجئًا لقوات الاحتلال لترهيب مواطنيها وإجبارهم على الرحيل، أما في هذا اليوم فقد استيقظت حمصة على هدم آخر لها، لتكون المرة السادسة على التوالي التي تُهدم فيها تلك الفترة، في الوقت الذي يحتاجُ الأهالي إلى خيمةٍ تأويهم في فصل الشتاء، تأتي قواتٌ همجيةٌ تجردت من معاني الإنسانية لتصادرها، فلم يبقَ لهم شيء سوى الصمود والبناء مرةً أخرى.