معسكر "التغيير" في إسرائيل خليط هجين ومتناقض

معسكر "التغيير" في إسرائيل خليط هجين ومتناقض

معسكر "التغيير" في إسرائيل خليط هجين ومتناقض

معسكر "التغيير" في إسرائيل خليط هجين ومتناقض

عصمت منصور

أعادت جولة الانتخابات الرابعة للكنيست 24 التي جرت في الثالث والعشرين من آذار مارس الماضي،إنتاج أزمة الحكم التي تعيشها دولة اسرائيل منذ عامين، كما أنها زادت الصورة تعقيدا، من خلال إحداث حالة من الخلط وإعادة الاصطفاف داخل المعسكرين المتنافسين، بحيث غابت السياسة والفوارق الأيديولوجية، وتلاشت الصراعات العقائدية والإثنية والقومية(كما في حالة القائمتين العربيتين)، وتم اختزال الفوارق بينهما في شخص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

معسكر "لا نتنياهو" الذي أصبح يطلق عليه في الإعلام الإسرائيلي اسم "معسكر التغيير" إنما هو التعبير الأمثل عن حالة التردي التي وصلت إليها السياسة الإسرائيلية، وتداخل الخطوط الأيديولوجية والسياسية، وانحسار قوى التغيير الحقيقية التي تتناقض أيديولوجيا مع خط اليمين الذي يمثله نتنياهو، وفوق ذلك على ضعف بنية المعارضة وعجزها عن تشكيل بديل حقيقي، قادر على تحدي حكم نتنياهو،وإزاحته خارج مكتب رئاسة الوزراء.

في ظل التركيبة غير المتجانسة، وعدم وجود زعيم مجمع عليه، وطغيان النزعات الشخصية والطموح الذاتي، يفقد "معسكر التغيير" عوامل القوة اللازمة من أجل الاستحواذ على السلطة، رغم حصوله على أغلبية عددية تمكنه من تشكيل جسم مانع يحول دون تمكين نتنياهو من تشكيل الحكومة،إلا انه لا يسعفه بالجلوس مكانه واستبداله.

معسكر واحد لا معسكران

إن قراءة متعمقة ومجردة لنتائج الانتخابات، وتقسيمة المعسكرين المتنافسين تظهر بوضوح أن هناك معسكرا واحدا، متماسكا ومتبلورا ومنسجما سياسيا وأيديولوجيا فقط، ينافس مجموعة أحزاب تسير بلا رأس او زعيم، ولا يجمعها شيء سوا عدائها لنتنياهو.

المعسكر الآخر، والذي يعلن عن نفسه صراحة أنه ضد نتنياهو (نستثني هنا القائمة الموحدة برئاسة عباس منصور التي أعلنت انها لا تنتمي لأي من المعسكرين، وتقف على مسافة واحدة منهما) حصل في جولة الانتخابات الأخيرة على 64 مقعدا في الكنيست وهو ما يمكنه بسهولة (نظريا) من تشكيل حكومة بأغلبية مريحة، ولكن، ووفق ما عبر عنه وشخّصه الكاتب ماتي توكفيل في صحيفة معاريف في يوم الانتخابات، عندما اعتبر ان العداء لنتنياهو ليس كافيا بحد ذاته لإنتاج معسكر تتواجد فيه "كل القضايا الخلافية بدءا من قانون القومية، وحقوق المثليين ومكانة يوم السبت، وصولا الى المحكمة العليا وصلاحياتها".

هذا التنافر بين مكونات "معسكر التغيير"، والذي لا يقف عند حدود الأيديولوجيا التي تمتد لتتسع الى حزب مثل ميرتس في أقصى اليسار،إلى جانب أحزاب يمينا وجدعون ساعر وليبرمان، بل يضم ولو اسميا "القائمة المشتركة" التي تقف على النقيض قوميا وسياسيا وأيديولوجيا مع كافة الاحزاب (الشريكة) الأخرى، التي تطعن في شرعية الاعتماد على اصواتها لتشكيل حكومة، وتتمترس خلف سياسات وقوانين تجعلها أقرب الى نتنياهو منها الى الأحزاب العربية.

بخلاف "معسكر التغيير"، نجد أن نتنياهو والذي حصل معسكره على 52 مقعدا فقط، أكثر قدرة على إدارة المعركة والفوز بتكليف تشكيل الحكومة وإضعاف المعسكر الآخر، من خلال استخدام أدوات الإغراء، والضغط السلطوية التي لديه، وقدرة التأثير التي يمتلكها على جمهور أحزاب يمينية وجدت نفسها بسبب من عدائها له في المعسكر الآخر، وهو ما يجعلنا نجزم يقينا أن هناك معسكرا واحدا فقط،وأن "معسكر التغيير" لا يعدو كونه خليطا هجينا ومتناقضا، ولا يقف على أرض صلبة، ولا يملك أيةأدوات ضغط حقيقية يمكن ان تهدد حكم نتنياهو بشكل جدي، وكل ما يمكن ان تفعله هو منعه من تشكيل حكومة فقط.

بعد اليسار ..تلاشي احزاب المركز

تشخص الكاتبة ليراز مرجليت في صحيفة ذا ماركر أزمة عملية التصويت في الانتخابات الاسرائيلية بأنها تحولت إلى( حالة عاطفية، لا عقلانية، تراجعت فيها قوة الأحزاب لصالح التكتلات، وغابت عنها القيم والمصالح الجامعة والأيديولوجيا)، وهو ما أدى الى انقسام الشارع الى كتلتين "تحكمهما مشاعر الحب الشديد لنتنياهو،أوالكراهية إلى درجة عدم احتمال وجوده".

هذه الحالة العاطفية في التصويت قضت وفق مرجليت على المركز وتيار الوسط في إسرائيل، كما أنهاأخفت الفوارق بين الأحزاب، وقللت من أهميتها إلى أدنى مستوى، مفسرة ان التردد الذي تم التعبير عنه في الاستطلاعات المتكررة لدى جمهور واسع من المصوتين الرافضين لنتنياهو" عاطفيا" بين جدعون ساعر ويائير لبيد، رغم الفارق الهائل في الخلفية والبرنامج والأيديولوجيا بينهما، إنما يعكس "حالة من البحث عن انتماء لزعيم قوي" وليس حزب او برنامج، وأن من لم يجد في هذين الزعيمين بديلا مقنعا عن نتنياهو اختار "عدم التصويت".

عبر أربع جولات انتخابية متتالية خلال عامين، برزت إلى العيان ظاهرة ضعف اليسار، والتي تحولت في الانتخابات الأخيرة الى ظاهرة انزياح الوسط أكثر وأكثر نحو اليمين.

موران ازولاي تصف في مقالة لها على موقع واي نت أن أبرز ظاهرة في الانتخابات الأخيرة هي ان الصراع انتقل من كونه صراعا بين اليمين واليسار او الوسط\مركز،إلى كونه صراعا بين " معسكرين يمينيين" وهو صراع صدامي ومباشر بين " زعيم كاريزماتي مكرس ويحظى بإجماع اليمين هو نتنياهو، وما بين تلميذه المكروه ومدير مكتبه السابق نفتالي بينت".

في ذات السياق كتب نداف هعيتساني في صحيفة معاريف أن هذه الانتخابات هي عبارة عن صراع محتدم بين تياري اليمين "الحقيقي والزائف"،أو بين يمين " الشعارات والنزوات الشخصية" وبين يمين " التنفيذ والأفعال على الأرض"، معتبرا أن اليمين القومي والأيديولوجي (دون الأحزاب الدينية) بتياريه اللذين يجمعان في مواقفهما على قضايا جوهرية تخص اليمين مثل "الموقف من اتفاق اوسلو والسلطة الفلسطينية  والاستيطان في الضفة والقدس،وحدود صلاحيات المحكمة العليا...الخ" حصل على 65 مقعدا في الكنيست وهو اكبر انتصار جماهيري انتخابي له على أحزاب اليسار.

إن ضعف تمثيل احزاب اليسار عدديا في الكنيست، وتلاشي خطابه وبرنامجه كليا في الحملات الانتخابية، الذي يأتي بالتزامن مع بدء زحف أحزاب الوسط نحو اليمين وانتقال أحزاب يمينيةأيديولوجية الى "معسكر التغير" دون ادنى تنسيق بينها،أو محاولة التوحد في قائمة واحدة، عزز من قدرة نتنياهو على البقاء، وشجعه لأن يدعو نفتالي بينت وجدعون ساعر الى العودة الى "معسكر اليمين" الذي يقوده، وعدم إضاعة فرصة تشكيل حكومة يمينية ترسخ حكم اليمين، وهي دعوة وصفها الصحفي المخضرم والمعروف بعدائه لنتنياهو بن كاسبيت في مقالة له في صحيفة معاريف "بالدعوة الوقحة" بعد كل ما فعله بهم ومحاربته لهم لدرجة "ان يسخر موقع واللا الإخباري لتشويه نفتالي بينت" وإهماله في جولات المفاوضات الائتلافية وتعمد "إهانته واذلاله".

العمر الافتراضي "لمعسكر التغيير" بيد نتنياهو

كلف رئيس الدولة روبي ريفلين وبعد انتهاء جولة المشاورات والاستماع لتوصيات رؤساء الكتل الفائزة في الانتخابات، بنيامين نتنياهو بتشكيل الحكومة أولا، بعد حصوله على 52 صوتا مقابل 45 صوتا ليائير لبيد وسبعة اصوات لنفتالي بينت، وامتناع الأحزاب العربية وحزب جدعون ساعر عن التوصية على احد.

إن هذه النتيجة تظهر بشكل فاقع حالة عدم الثقة والانسجام بين مكونات "معسكر التغيير"، وهو ما يمنح نتنياهو الفرصة للتحكم مرة أخرى في جدول اعمال الحلبة السياسية وإعادة خلطها من خلال استهداف الأحزاب ذات الجذور اليمينية، والتي تستمد شرعية وجودها ليس من عدائها له بقدر ما تستمدها من جمهورها اليميني.

فشل جدعون ساعر في أن يحل مكان نتنياهو، وأن يسحب مصوتي الليكود اليه، كما فشل نفتالي بينت في ان يسوق نفسه على أنه حزب يميني عريض، وليس حزبا قطاعيا عريضا يتسع لجمهور اليمين، بينما نجح نتنياهو في الحفاظ على جمهوره، ونجح في تعزيز المنافسة لصالحه لدى أوساط الصهيونية الدينية،من خلال دعمه للوحدة بين سموتريتش وبن جبير وحصولهما على عدد من المقاعد يساوي ما حصل عليه جدعون ساعر.

ستنصبّ محاولات نتنياهو في تشكيل حكومة على جدعون ساعر ونفتالي بينت لأنهما لا يمتلكان "الشرعية" الكافية لدى جمهور اليمين في الذهاب للتحالف مع يائير لبيد وحزب العمل وميرتس على حساب حكومة من اليمين، كما انهما قد يفقدان الكثير من قوتهما في حال الذهاب الى جولة انتخابات خامسة.

محاولات نتنياهو هذه قد لا تعطيه ائتلاف الأحلام الذي يبحث عنه، ولكنها ستقدم له نقطة هجوم مريحة ضدهما في الانتخابات القادمة اذا ما فرضت عليه، او تملكه المسوّغ للذهاب والبحث عن الصوت العربي.

الصوت العربي الضائع

انقسام القائمة العربية المشتركة على ذاتها، وتراجع قوتها وانخفاض نسبة التصويت في الوسط العربي، وعودة الاحزاب الصهيونية الى الساحة العربية، لا يعتبر الخسارة الوحيدة التي منيت بها في هذه الانتخابات، اذ ان وقوف منصور عباس وقائمته الموحدة على الجدار، وعدم الخروج بموقف واضح ضد حكومة ونهج بنيامين نتنياهو، وإبداء الاستعداد للتعاون معه (ومع الاحزاب المكونة لمعسكره بما فيها حزب الصهيونية الدينية) أفقد الصوت العربي في الكنيست قيمته وقدرته على المناورة وقطع الطريق على نتنياهو في تشكيل حكومة، او سن قوانين تقيد معسكر نتنياهو، وبدل ذلك فإن هذا (الحياد) الذي يعد انحيازا، واعلان موقف يخرج عن كل المسلمات والادبيات وتقاليد العمل البرلماني لدى الأحزاب العربية في الكنيست الاسرائيلي، منح نتنياهو هامشاأوسع للضغط على جدعون ساعر والاحزاب اليمينية الأخرى التي تتخوف من قدرة نتنياهو على تشكيل حكومة بمعزل عنها.

وجود القائمة العربية المشتركة في "معسكر التغيير" دون  أن تتمكن عمليا من أن تكون جزءا من أية حكومة، يعكس جزئية أخرى تضعف هذا المعسكر ومحدودية خياراته وعمره القصير، الذي لا يتوقع له ان يصمد بذات التشكيلة إذا ما تم الذهاب الى انتخابات خامسة.

روضة اطفال

ربما يكون الوصف الذي أطلقه افيغدور ليبرمان والمعروف بلسانه السليط وغريزته السياسية الحادة، في مقابلة أجراها معه موقع واي نت في الثامن من آذار مارس الماضي والتي قال فيها ان "معسكر لا بيبي هو اشبه ما يكون بروضة اطفال" هو الوصف الأقرب الى الواقع، بسبب الأنا المتضخمة لدى رؤساء أحزابه وحالة عدم الثقة التي تسود بينهم والبحث الدائم عن طرف يلقون عليه اللوم بالفشل في كل مرة، والأهم من ذلك هو عدم امتلاكهم الشجاعة الكافية للإقدام على اتخاذ خطوات جريئة وخاصة في قضية الاعتماد على الصوت العربي، وهي عوامل تفقدهم أهم الأوراق التي من خلالها يمكن ان يحققوا الشعار الذي حولوه الى قاسم مشترك يجمعهم معا.

الى جانب ليبرمان والذي يعد واحدا من مكونات هذا المعسكر، شكك الكاتب يارون توبرينك في مقالة له نشرها موقع "تايم اوت" بوجود شيء اسمه "معسكر التغيير"، معتبرا ان هذا المعسكر هو من صنع الإعلام، وأنه لا وجود له على ارض الواقع لأنه لا يمكن ان توجد أرضية قادرة على أن "تجمع ايمن عودة مع ليبرمان وجدعون ساعر مع مراعنة وهندل مع ميرتس" معتبرا ان تغيير الحكم يحتاج الى روافع حقيقية لا تتوفر في هذا المعسكر الذي " اخترعه الاعلام والمعلقون السياسيون الذي دفعوا جانتس الى أحضان نتنياهو عندما اخترعوا الحاجة الى الوحدة في مواجهة كورونا".

لا أدل على كل ما سبق ومن أجواء روضة الأطفال التي شبه بها ليبرمان هذا المعسكر من توقيع نفتالي بينت عشية الانتخابات وبشكل مرتبك وارتجالي على وثيقة يتعهد فيها "أن لا يجلس في حكومة يرأسها يائير لبيد"وهو الذي يفترض ان يكون رئيس أكبر حزب في هذا المعسكر، وكل هذا من أجل ان ينافسه على الفوز بمنصب رئاسة الحكومة رغم حصوله على سبعة مقاعد فقط في هذه الانتخابات.

قد يفشل نتنياهو في تشكيل حكومة، إلا أن المعسكر المضاد له لن يتمكن من إزاحته وتشكيل حكومة بديله عن حكومته، ليبقى هذا الطموح مجرد شعار فارغ إلا انه حيوي ووجودي بالنسبة لأحزاب تفتقد لبرنامج حقيقي ولا تجد ما يمكن ان يفرقها عن بعضها أو يميزها أيديولوجيا، وفي ظل تحول المنافسة الى منافسة شخصية وحول الاسماء فقط.

 

 

 

 

 

 

 


Share: