عن الحرب القادمة في الضفة..

الكاتب: د.عاطف أبو سيف
لا تبدو صورة نتنياهو مع جنوده في داخل أحد بيوت مخيم طولكرم عادية؛ كما الرسالة التي بثها من احد شوارع المخيم وهو يتحدث عن حرب جيشه ضد المخيم وأهله. نتنياهو ووزير جيشه تسابقا للقدوم للمخيم من اجل الصورة، ولكنهما أيضاً أكدا على توجهات الحكومة اليمينية المستقبلية بخصوص الضفة الغربية ونقل كل ثقل الحرب إليها. تتذكرون تلك الصور التي كان يحرص نتنياهو على التقاطها من بيوت مخيم جباليا ورفح وعلى شاطئ مدينة غزة وكذلك تلك الصور التي كان مولعاً بها وزير حربه السابق غالانت بين الجنود وهم يدمرون غزة. القصة ليست قصة صورة وليست مجرد سباق للاستعراض بل هي رسائل ومؤشرات مهمة حول طبيعة المرحلة المقبلة.
الفكرة أن العلاقة بين صور نتنياهو في غزة وصوره في البيت بطولكرم أبعد من مجرد تناظر وتشابه بين واقعتين. بعد تجربة غزة المؤلمة بات شائعاً في الخطاب الإعلامي كما في الخطاب السياسي اليميني في إسرائيل الإشارة إلى مأساة مخيم جباليا كنموذج لا بد من تطبيقه في المناطق الأخرى خاصة حين يتم التحدث عن مخيمات الضفة الغربية. وفيما الكثير من الأماكن في قطاع غزة تم تدميرها بشكل كامل مثل مخيم رفح لكن ما حدث في جباليا شيء مختلف إذ إن كل شيء تم تدميره تقريباً، ويصح القول: لم ينجُ بيت كما لم ينجُ شارع ولا شجرة ولا عامود إنارة. كل شيء تم تدميره بشكل ممنهج. المشاهد التي تعمد الجيش بثها خلال الأشهر الماضية من جباليا لم تكن عفوية ولم يكن الأمر مجرد استعراض وتفاخر بل هو جزء من حرب المستقبل وكي الوعي لردع الفلسطينيين من أي ردة فعل أو من مجرد التفكير في مواصلة القتال. كل شيء تتم مقارنته بما حدث في جباليا، وكل التهديدات الإسرائيلية تعيد تذكير الفلسطيني بمخيم جباليا وما حدث له من أجل دمغ الصورة القاتمة والكئيبة لمخيم جباليا في الوعي الفلسطيني المراد ردعه. المقصود مرة أخرى أن تجربة مخيم جباليا بشكل خاص ضمن عموميات التجربة في غزة سيتم نقلها للضفة الغربية، وما حدث في مخيم جباليا سيحدث في مخيمات جنين وطولكرم وبلاطة وغيرها.
ما حدث أن حرب غزة واتفاقية الهدنة التي تصاحبها (لم أقل تلتها، لأن الحرب لم تنتهِ) عززتا توجهات فصل مصير الضفة الغربية عن مصير غزة. الآن، يتم الحديث عن التهدئة في غزة وربما وقف إطلاق نار شامل لفترة سنوات قد تصل إلى عشر فيما الوضع في الضفة الغربية أمر آخر لا أحد يتحدث عنه. بدأ تكريس هذا النهج منذ حرب 2014 والاتفاقية التي تلتها، وبعد ذلك بات واضحاً أن حروب غزة تخص غزة وحدها وعليه فإن تفاهمات غزة تخص غزة وحدها ولا رابط بين الاستغوال في الضفة والضم والتدمير وبين غزة. تذكروا حين دخل شارون القدس في أواخر أيلول العام 2000 احترقت غزة في نفس الدقيقة وكان عرفات يوجه الشاحنات بنفسه لنقل المتظاهرين من جامعات غزة إلى مفترق الشهداء (هكذا سماه عرفات، وعاد ورجع اسمه للأسف في خطاب الحرب الحالية إلى محور نتساريم).
هل أطلقت التهدئة في غزة يد إسرائيل في الضفة؟ أيضاً يجب أن نكون حذرين حين نجيب بنعم لأن إسرائيل لم تتوقف يوماً عن استهداف الضفة الغربية وعن مواصلة مشروعها الاستعماري هناك، بل على العكس فإن جرائم الاحتلال هناك بقيت في تصاعد مستمر طوال الوقت، وعند فحص تصاعدها نجد أنه غير مرتبط بأي حدث آخر إلا بعامل الزمن، بمعنى أنه منذ العام 1967 يزيد هذا التصعيد يوماً بعد آخر، حتى في ذروة عملية السلام التي لم تستمر طويلاً. ومع هذا يجب عدم التردد في الإجابة بنعم كبيرة على السؤال؛ فالتهدئة في غزة أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ ما قامت به في غزة في الضفة الغربية. نعم، فمثلاً تتم إعادة نفس المشاهد التي تم فيها تهجير سكان غزة وإفراغ المنطقة من سكانها من أجل أن يقوم الجيش بعمليات عسكرية فيها. هذا حدث في مخيم جنين ثم في مخيم طولكرم مثلما حدث في مخيم جباليا والشاطئ. نفس التجربة. الآن، بات لدى إسرائيل نموذج تعمل على تطبيقه وتنفيذه، ولديها أدوات قياس يمكن لها أن تستعين بها من أجل فحص النتائج. الحديث عن التهجير في الوعي الإسرائيلي لا يدور عن غزة فقط، بل إن المقصود أيضاً طرد وتهجير السكان من الضفة الغربية، كما أن حديث ترامب عن تهجير سكان غزة كان مصحوباً بحديثه عن ضم الضفة الغربية، فمقاصد ترامب هي تصفية القضية الفلسطينية، مثل أن يتم التخلص من أي سلعة زائدة. هكذا يفكر ترامب وهكذا يفكر مستشاروه. وفيما قد لا يحدث أي شيء من هذا إلا أن فكرة تهجير الفلسطينيين صارت فكرة «يمكن الحديث عنها» وترامب ونتنياهو لا يريدان في هذا الوقت أكثر من ذلك.
مرة أخرى، فإن صورة نتنياهو وسط الجنود في مخيم طولكرم هي إعلان رسمي عن مسار المرحلة القادمة التي لن تبدأ فجأة بل ستتدحرج تدريجياً وستجد في الخطاب المنفلت من البعض ترويجاً لها، كما ستجد في بعض الأعمال تشجيعاً لها وتبريراً في الإعلام الغربي. لاحظوا كيف خف الحديث عن الحرب في غزة. الآن، ضمنت إسرائيل أن الأمور في غزة تسير تحت السيطرة. الأسرى سيخرجون تدريجياً. ليس بالضرورة أن يخرجوا بعد أسبوع وقد تتأخر المرحلة الثانية لكن أحداً لن يبادر إلى تصعيد كبير، بل مضبوط وموزون من أجل تحسين النتائج، مثل المزيد من الكرفانات أو شاحنة طحين أو اثنتين، وهكذا، وحين يحدث خطأ مثل وضع جثة امرأة فلسطينية بدل جثة أسيرة إسرائيلية يتم تدارك الأمر، ومتروك لكل طرف أن يقول ما يشاء دون أن يؤثر هذا على ما يتم الاتفاق عليه.
تم ترويض غزة وتم فهم أقصى ما يمكن أن تصل إليه الأمور، وصحيح أن ترامب بدأ يتراجع عن فكرة تهجير غزة «قهراً» لكن فكرة تهجير غزة عبر سبل أخرى لم تنتهِ، ووضع ما بعد الحرب وعدم إنجاز تسوية واتفاق شامل ليست إلا جزءا من هذه الاستراتيجية التي تجعل الحياة مستحيلة، والآن جاء الدور للتخلص من «وجع الرأس» الذي يشكله الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية.