"لا أعرف أبي" ..
رام الله- تعلو "أبراش" الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي صورا لأطفالهم، يحتفظون بها لسنوات، ويزينونها بإطارات من قماش منزوع من بقايا ملابس، وهي بالنسبة لهم متنفسا، يهربون فيها من خلوتهم القسرية في غرف وزنازين السجون.
يدور حديث بين الأسير والصورة، يخاطبها وكأن صاحبها ماثل أمامه، يحاول أن يكسر حالة الحرمان والجمود التي تفرض عليه.
تمر السنوات ثقيلة وطويلة على الأسير، وتبقى الصور معلقة على حالها، بينما أصحابها يكبرون خارج السجن، ويشتد عودهم.
آلاف الأسرى اعتقلوا بينما كانت زوجاتهم حوامل، أو لديهم أطفال بعمر الورد، أو كانوا قد بدأوا للتو يخطون خطواتهم الأولى.
"أقصى" جَنين في أحشاء أمها يوم اعتقال والدها
أقصى زغلول التي التحقت بجامعة بيرزيت هذا العام، كانت جنينا في أحشاء والدتها يوم اعتقال والدها محمد زغلول من قرية دورا القرع شمال رام الله في الثلاثين من شهر يونيو/ حزيران 2004 لدى وجوده في أريحا، قبل أقل من أسبوع من حفل تخرجه من جامعة بيرزيت، حينها كانت طفلته البكر فيروز في عامها الرابع، وخرجت إلى منصة الخريجين وتسلمت شهادة والدها.
كان الشهر الأخير في حمل زوجته علا زغلول متعبا، ولم يكن هذا هو غيابه الأول عنها في حملها ووضعها، فحين جاءت بطفلتهما الوسطى دانا كان أسيرا في سجون الاحتلال، ولما أفرج عنه كانت بعمر الثلاثة أشهر.
وفي اعتقاله الأخير، رغم أن علا ستضع مولودتها بعيدة عن زوجها مرة أخرى، كانت تظن أن اعتقاله لن يطول كثيرا، إلا أنه مستمر منذ أكثر من ثمانية عشر عاما.
نطقت أقصى كلمة "بابا" في أولى كلماتها، قالتها قبل كلمة "ماما"رغم أنها لم تتحسس والدها، ولم تلمسه، ولم يدللها، ولم يحضنها.
اقتطعت علا صورة لزوجها من بوستر للأسرى وغلفتها، وألصقتها في سرير طفلتها أقصى، فصورة والدها كانت رفيقتها وملازمة لها، وتردد أمها على الدوام "هذا والدك وحبيبك ورفيقك وحاميك".
بعد عامين ونصف على اعتقال زغلول، ولشدة إلحاحه على رؤية طفلته التي لم يراها مطلقا إلا من خلال الصور، قررت علا أن تصطحب أقصى لزيارة والدها للمرة الأولى.
ليلتها، أعادت علا تذكير أقصى بوالدها فهو الذي لم تغب صورته عنها في سرير نومها، ووصفت لها أبيها بلحيته وشعره الكثيف.
هب الأسرى يهللون حين وصلت أقصى شبك الزيارة، وبعد شد وجذب رضخ السجانون للأسرى من أجل إدخال أقصى عند والدها.
ذهبت تركض نحوه رغم أنها لم تعرفه إلا من خلال الصورة، احتضنها لأول مرة، علت أصوات "زغاريد"، وتداخلت معها الدموع التي بدت على أهالي الأسرى الذين كانوا يزورون أبناءهم.
وفي يوم تخرجها من الروضة، ألقت أقصى كلمة للخريجين، بعد أن رفضت الخروج للمنصة في البداية، بعد أن أخبرت أمها أن أقرانها لديهم أب وأم وهي لا، لكن أمها حاولت أن تقويها، وتشد من عزمها، قائلة لها "عليك أن تتخيلي بأن والدك يجلس أمامك"، وفعلا خرجت إلى المسرح وألقت الكلمة، وخاطبت والدها الذي كان على شكل صورة بجانب والدتها.
"قربت تخلص هالسنين، سنة وتسع شهور وبطلع محمد، ورح يرجع عند بناته الي كبروا، ورح يحضنوا ويعوضوا كل السنين الي انحرموا فيها منه"، تقول علا زغلول.
أحمد أبو سطحة الرضيع يوم اعتقال والده
أحمد أبو سطحة هو الآخر لم يكن قد تجاوز الستة أشهر حين اعتقل والده محمد أبو سطحة، بعد أن حاصر جيش الاحتلال منزله في حي أم الشرايط بمدينة البيرة.
كان محمد مطاردا لجيش الاحتلال حين أنجبت زوجته خالدة في مستشفى الناظر بمدينة رام الله في الأول من حزيران/ يونيو 2001، تخفى وغامر بالدخول للمستشفى لاحتضان نجله البكر، وللاطمئنان على زوجته التي تنقلت من بيت لبيت خلال فترة حملها التي وصفتها بالصعبة والمرهقة.
قررت خالدة عند ولادتها العودة إلى بيتها في حي أم الشرايط بالبيرة، وإنهاء حالة المطاردة التي كانت تعيشها، خاصة بعد ولادتها وخوفها على طفلها من كثرة التنقل بين البيوت.
عادت خالدة، وظلت بعيدة عن محمد، فالاحتلال كان يترصده، وكان على لائحة الاغتيالات التي وضعتها.
وفي يوم شتوي بارد، فاض الشوق عند محمد لرؤية طفله البكر، فعزم على الذهاب إلى منزله لاحتضان طفله ولو لدقائق معدودة، يبل فيه شوقه وحنينه.
وما أن دخل البيت حتى حاصرت القوات الخاصة الإسرائيلية المنزل، وعبر السماعات طالبوه بتسليم نفسه وإلا سيقوموا بتفجير المنزل على من فيه، ولحرصه على حياة زوجته وطفله، قرر تسليم نفسه، وحكم بعد سنوات في الأسر بالسجن تسع مؤبدات و50 عاما، ونسف منزله عام 2003.
عرف الطفل الرضيع أحمد السجون بعمر ستة أشهر، كان يزور والده برفقة جدته، لأن والدته خالدة حرمت من زيارة زوجها لمدة 12 عاما بحجج واهية.
تعود خالدة في ذاكرتها لأكثر من 15 عاما مضى، حين كان أحمد قد كبر قليلا ووقتها كثرت أسئلته عن والده، حيث كانت تلك الأسئلة بالنسبة لخالدة متعبة نفسية، وتغرس جرحا وغصة في القلب.
وفي مرة بعد أن بلغ أحمد خمس سنوات، عاد من إحدى الزيارات يسأل والدته، لماذا لا يتمكن من احتضان والده مثل أقرانه.
وتقول خالدة: "في تلك الزيارة أخبرتني جدته أنه كان يطرق الزجاج الفاصل بينه وبين والده، ويصيح بأنه يريد الدخول عند والده".
وتضيف: "ربيت فيه حب الوطن وحب والده، خاصة منذ أن بدأ يعرف معنى أن يكون والده أسيرا في سجون الاحتلال، فشجعته على أن يفتخر به، وألا يحزن لبعده عنه".
أحمد الذي اعتقل والده بينما كان طفلا رضيعا، كبر وتفوق في دراسته بعيدا عن والده، فهو يدرس الآن هندسة البرمجيات في تركيا، فيما والده الأسير في سجن "هداريم" يدرس الماجستير في تخصص الدراسات الإسرائيلية.
"وحيدة أنا اليوم، زوجي أسير منذ 20 عاما، وابني الوحيد لحق شغفه وحلمه وسافر إلى حيث أراد أن يكون، سنجتمع قريبا هذا هو المؤكد، ستجمعنا صورة جماعية، فبيتنا يخلو من صورة واحد تجمعنا"، تقول خالدة.
فراس العرقان: حرم من زيارة والده 17 عاما
في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير عام 1995 اعتقل محمد نبيل العرقان من مدينة الخليل الذي كان يبلغ 35 عاما، وحكم بالسجن المؤبد، وحين اعتقاله كانت ابنته البكر جمانة تبلغ 12 عاما، وفيصل 11 عاما، وحيان 10 أعوام، وفراس أصغرهم بست سنوات.
ولمدة 17 عاما حرم الاحتلال فراس من زيارة والده منذ أن كان عمره 16 عاما، وعند السؤال عن سبب منعه من الزيارة، كانت الحجة "لا يوجد صلة قرابة!".
وتقول والدته: "فوجئنا بحرمانه من زيارة والده، فهو كان صغيرا في السن ولم يعرف كثيرا في الحياة بعد، ورغم أننا زودناهم بأوراقه الثبوتية، إلا أنهم لا يعترفون بها، وأصروا أنه لا يوجد صلة قرابة بينه وبين والده!".
أصبح للعرقان ستة أحفاد محرومون أيضا من زيارته، فهم أصبحوا في عمر أبنائه حين اعتقاله عام 1995.
ويحرم الاحتلال فيصل وحيان من زيارة والدهم منذ سبع سنوات، تحت ذرائع واهية.
عاشت الزوجة حياة صعبة جدا منذ بداية اعتقال زوجها، بعد أن ترك لها أربعة أطفال، لم يشبعوا من والدهم ولم يتشربوا حنانه كباقي الأطفال في عمرهم.
"كانت سنوات صعبة ومرهقة، فأطفالي كانوا متعلقين كثيرا بوالدهم، وفي لحظة يخطف من بينهم، هي أيام قاسية كانت على أبنائي"، تضيف أم فيصل.
لم تتمكن أم فيصل من زيارة زوجها منذ جائحة كورونا بداية عام 2020،إلى جانب الكسور في الحوض التي تعرضت لها أثناء زيارتها للمسجد الأقصى المبارك عام 2019.
أجرى العرقان الذي يقبع في سجن "ريمون" عملية بعد شد وجذب قبل سبع سنوات لاستئصال ورم خبيث في الكبد، واليوم حين يشعر بالوجع يحصل على "الأكامول" فقط.
وحسب هيئة شؤون الأسرى والمحررين، فإن نحو 4700 أسير يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بينهم 550 أسيرا يقضون حكما بالسجن المؤبد، أمضى أغلبهم أكثر من 20 عاما في معتقلات الاحتلال.
عن (وفا)