الإنتلجنسيا في عصر مواقع التّواصل الاجتماعي.. التَّباعد الفكري بقلم اسراء نزال

الإنتلجنسيا في عصر مواقع التّواصل الاجتماعي.. التَّباعد الفكري بقلم اسراء نزال

الإنتلجنسيا في عصر مواقع التّواصل الاجتماعي.. التَّباعد الفكري بقلم اسراء نزال

من هو المثقَّف؟.. هل هو “شاهد ما شافش حاجة”؟
يظنُّه البعض أنه ذلك الذي يرتدي قبعة تريبلي أو قبَّعة بائع الصُّحف (قبعة الخبَّاز) ومعطف كلاسيكي، ممسكًا كوبَ القهوة في يده اليسرى والجريدة في يده اليمنى، جالسًا في الرُّكن يُحادث نظراتَ الناس بصمته والابتسامة هاربة.. عابسًا في وجه المارَّة، كاتبًا ما يجول في خاطره على ورقة يجعلها صفراء بعد أن كانت بيضاء، لكي يوحي للمارَّة أنَّه قديمٌ ومختلف.

ذلك الأنموذج المُبتذل المزيَّف من المثقف القديم. لكن، أمام وسائل التَّواصل الاجتماعي والتي جعلت كل عابرٍ يظنُّ نفسَه هو الكائن وهو المؤثِّر والمثقف.. أصبح للمثقف المزيَّف مظهرًا آخر رديء أشدَّ ابتذالاً من الأنموذج القديم، كل ما يحتاجه هو الهاتف و”كاميرا” وإضاءة ومونتاج محترف، ومحتواه الذي لا يمدُّ لحاجة المجتمع بصلةٍ، بل من خلال تفاهةٍ قد تخدّر الوعي، وتخدّر أكثر برؤية عددٍ كبير جدًّا من المُتابعين الذي يهلّلون ويطبِّلون لذلك الذي أمام الكاميرا!
لذا، وأمام عجلة تطوُّر التكنولوجيا السَّريعة والتحدِّيات العميقة التي تواجه المجتمعات خاصة أمام وسائل الخطف الاجتماعي، وضياع المفاهيم الأساسية البنَّاءة للمجتمع كمصطلح: مثقف، متعلِّم، متنوِّر.. وغيرها من المصطلحات التي كانت مُتداخلة سابقًا، وأصبحت منفصلة لاحقًا، أصبح ملِحًّا الآن إنقاذ مفهوم ومصطلح “مثقف” من مستنقع “المُستثقفين” المضطربين. السؤال الآن: رغم وجود أسماء فذَّة عديدة من المفكِّرين والكتّاب والفلاسفة وعلماء اجتماع.. لماذا لكلٍّ منهم تعريفه الخاص للمثقف؟
بدايةً، وقبل الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نُبحر قليلاً في مفهوم الثقافة والتي منها اكتسب الإنسان صفة المثقف، فمن المؤكد أنَّ تعريف المثقف يسكن في الثقافة لكن استخراجه يحتاج إلى شجاعة، فمن المحتمل أنَّ المفاهيم التي سمعناها هنا وهناك قد تندثر، لو سألنا الثقافة نفسها: “من هو المثقف”؟

الثقافة، كما المثقف، لديها تعريفات عديدة يختلف عمقها من زمن إلى آخر، لكن تخيَّل لو سألت مزارعًا في القرون القديمة عندما كانت الزراعة تشكِّل مهنةً لأكثر من ثمانين بالمائة من البشر ولا يوجد تواصل مع الأقوام الأخرى.. تخيل لو سألت هذا المزارع عن ماهيَّة الثقافة! لن يخبرنا بكل تأكيدٍ أيَّ تعريف قد تعلَّمناه أو عن الإنجازات الإنسانية والتكنولوجيا والتقدُّم الأدبي والمعرفي، بل سيحصر تعريفه بحسب حاجته وحاجة محيطه! فمن المُحتمل أن يقول بأنَّ الثقافة تتعلق بمدى معرفة المرء بالزراعة وكيف يتعامل الانسان مع التربة، وأنَّ المثقف هو ذلك الذي يعلم بالزراعة أكثر من غيره! وأمَّا الكائن البشري في العصر الحجري ستكون إجابته أيضًا في سِياق رؤية المزارع، لكن ليس حول الزراعة، بل حول حاجة بشريٍّ في عصر حجريٍّ، ومع التطوُّر الإنساني والتقدُّم المعرفي والتَّراكم الأدبي، أصبح للثقافة مفهومًا أعمق يتناسب مع وعي معرِّفه، ومدى اتصاله بمحيطه. ماذا أقصد بذلك؟
يعرِّف “تشومسكي” المثقف بأنَّه هو مَن حمَل الحقيقة في وجه القوة، وعرَّفها “فوير” بأنَّه ذلك الشخص الذي تمتدُّ أفكاره إلى نطاق أبعد من مهنته ويهتمُّ بالقضايا والمشكلات الحقيقيَّة، و”جون بول سارتر” يقول أنَّ المثقف هو ذلك الذي يتدخَّل فيما لا يعنيه ويمتلك القدرة على الجهر بالحقيقة، في حين يقول “نجيب محفوظ” أنَّ قارئ الحَرف هو المتعلِّم، وقارئ الكُتب هو المثقف، لكن “محمد حسين هيكل” يصف المثقف أنَّه بطبيعته لا يملك جوابًا نهائيًّا لسؤال ولا يتصوُّر مثل هذا الجواب النهائي.
تباينٌ واضح في تعريفات عقولٍ من نُخبة العالم، عاكسة تلك التَّعريفات الطريقةَ التي يرى بها المعرِّف عالمَه وبالتالي الطريقة التي يحلِّل بها ذهنه ما رآه، ملخِّصًا حقيقة وعي ذلك المعرِّف! أي أنَّ كلَّ تعريف هو انعكاس لوعي ذلك المعرّف تناسبًا مع خبراته وقدراته وآلية تفاعل ذهنه مع المجتمع، ممَّا يستدعي الوقوف طويلاً أمام تناسب أيّ تعريف مع حاجة مجتمعنا بالدرجة الأولى.

وأمَّا الثقافة فيعرِّفها “كروبي” و”كلاكهون”، وهو تعريف يحظى بموافقة علماء الاجتماع في الوقت الحاضر، لأنَّه يعتبر صيغة تأليفية مقبولة، فالثقافة – عندهما – تتألَّف من أنماط مُستترة أو ظاهرة للسُّلوك المُكتسَب والمَنقول عن طريق الرُّموز، فضلاً عن الإنجازات المتميِّزة للجماعات الإنسانية. ويتضمَّن ذلك الأشياءَ المصنوعة. ويتكوَّن جوهر الثقافة من أفكار تقليديَّة وكافّة القِيَم المتَّصلة بها. أمَّا الأنساق الثقافيَّة، تُعتبر نَتاج السُّلوك من ناحية، وتمثِّل الشّروط الضروريَّة له من ناحية أخرى. إن كان هذا التعريف هو المُتَّفق عليه حاليًا من قبل علماء الاجتماع، فكيف هو المثقف والذي صفته مُشتقَّة من الفعل: ثَقُفَ، وهو الفعل نفسه المُشتقَّة منه كلمة ثقافة؟
لا بدَّ من وجود رابط ما بين المثقف والثقافة كي لا ننخدع بأحد ما قد قرأ كتابًا وقرَّر أخذنا إلى الهاوية!

لنعد إلى التَّعريف المُتَّفق عليه، إن كانت الثقافة تجمع بين الإنجازات الإنسانية والأنماط والأشياء المصنوعة والأفكار والتي جميعها تعتبر نتاج سلوك جماعة ما، كيف لنا أن نظنَّ أنَّ كل مُتعلِّم أو حامل شهادة.. ما هو مثقف!

والجدير بالذِّكر أنَّه قديمًا، عندما كان التَّعليم ليس في متناول الجميع بل القليل، كان يُعتبر المتعلِّم مثقفًا، وأمَّا اليوم فقد اتَّجه الكثير من الكُتّاب ومعرِّفي المثقف بأنَّه لا يُشترط حتى أن يكون متعلِّمًا نظرًا لتطوُّر حاجة المجتمع الوعيِيِّ والذِّهني والذي لا يأبه بالكمِّ المعرفيِّ لدى المرء إن لم يتم تطبيق تلك المعرفة وتحويلها إلى مُنتَج مُساهم في خدمة المجتمع!
حسنًا، من المُمكن جدًّا أن تقول أنَّني قد حصرت تعريف من هو المثقف؟ من خلال تحليل تعريفٍ واحد للثقافة وإن كان مُتَّفق عليه، إلاَّ أنَّنا يجدر بنا ألاَّ ننسى أنَّ الثقافة هي جزءٌ من هوية الإنسان، وهي الهمُّ الأول لأيِّ احتلالٍ لاقتلاع الشعب من الوجود، ممَّا يستلزم تذكُّر الهويَّة والوجود عند صياغة تعريفٍ للمثقف.

وعليه، لا يمكن لنا أن نصف القارئ والمخترعَ والعبقري بأنَّه مثقفٌ إن لم يكن على التصاق بمجتمعه كي يحقق له حفاظًا على هويته ووجوده، فالمثقف هو ممثِّل لثقافة مجتمعه، أو على الأقل يلتقي المثقف والثقافة عند جذر لغوي هو ذاته “ثَقُف” ممَّا يتطلَّب احترامًا لشعبٍ ومجتمعٍ ثقافتُه هي جزء من هويته، وذلك ما يستدعي صياغة مفهومٍ للمثقف يحاكي حاجة وهوية ووعي ومتطلَّبات المجتمع.
بناءً على ذلك، المثقف هو ذلك الذي تمكَّن من تمثيل ثقافة جماعة ما من حيث الإلمام المعرفي الكافي بكل ماضي وحاضر الأمَّة، من حيث الإنجازات الإنسانية والسلوك والنمط الفكري لدى شعب ما، وآلية التَّحصيل والتطبيق المعرفي وجوهر السُّلوك الإنساني ما بين أفراد الجماعة، ومن ثم القدرة على تحليل وتطوير ما ذكرتُ للوصول إلى طريقةٍ تحافظ على ماضي الأمة ومن ثم تطوير حاضرها من خلال حل مشكلاتها والتحديات التي تواجه أفراد هذه الجماعة.. وأخيرًا، القدرة على تقليص الفجوة أو السلبيَّات أو التَّناقضات التي قد تتواجد بين الأفراد، لتحقيق وحدةٍ واحدة تجتمع على ثقافة واحدة، ثمَّ قدرة هذا المثقف على التَّفاعل مع الثقافات المختلفة، مُحقّقًا انسجامًا دون ذوبان.