استحضار ماجد أبو شرار

استحضار ماجد أبو شرار

ماجد ابو شرار

بقلم: نهاد أبو غوش

تزدحم الروزنانة الفلسطينية (والعربية إجماليا) بالمناسبات الحزينة على مدار العام، فهذه ذكرى مجزرة، وتلك ذكرى النكبة، وبعدها ذكرى النكسة، وذلك يوم الشهيد إلى ذكرى اغتيال قائد أو مجموعة من القادة، ثم يوم الأسير، ويوم الأرض الذي هو ذكرى استشهاد ستة فلسطينيين خلال المواجهات التي عمت منطقة الجليل وخاصة قرى سخنين وعرابة ودير حنا في أواخر نيسان 1976. وهذا أمر طبيعي لشعب يخوض صراعا عنيفا ومستديما وشائكا منذ أكثر من قرن، وليس ثمة اية إشارة إلى قرب انتهاء هذا الصراع وما يرافقه من نزيف.

في التاسع من تشرين الأول/ أوكتوبر هذا العام مرت الذكرى الأربعون لاستشهاد القائد والمثقف والإعلامي والأديب الفلسطيني ماجد ابو شرار، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ومسؤول الإعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية الذي استشهد عن 45 عاما وهو المولود في مدينة دورا عام 1936، اثر اغتياله من قبل الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) في 9/10/1981 اثناء تواجده في العاصمة الإيطالية روما لحضور بعض الفعاليات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، وما يتلوها في العادة من لقاءات سياسية مهمة مع قوى حركة التحرر والقوى التقدمية وممثليها.

تستحق ذكرى استشهاد ماجد ابو شرار، وهي للمصادفة نفس ذكرى اغتيال الثائر الأممي أرنستو تشي جيفارا في بوليفيا، بعض التوقف ليس فقط لما تميّز به ماجد من مناقب وخصال استثنائية، وللأدوار المركبة التي لعبها هذا الثائر في مختلف مواقع الكفاح، ولكن ايضا بسبب الحاجة لاستحضار هذا النموذج، وتعريف الجيل المشتبك بمهام النضال في الوقت الراهن على نمط فريد من القادة لم يعد متاحا العثور على كثير منهم في هذا الزمن. والأهم هو ما يمكن أن يعكسه هذا الاستحضار لشخصية ماجد على دور ومهام حركة فتح التي كان أحد رموزها وقادتها البارزين، وعلى عموم الحركة الوطنية الفلسطينية التي تبدو الآن في أسوأ لحظات الضياع والتشتت.

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الشهادات عن ماجد وسجاياه منتشرة ومتناثرة هنا وهناك لدى رفاق السلاح والتنظيم الذين جايلوه وعايشوه في مختلف مراحل التعليم والعمل مدرسا ومدير مدرسة في منطقة الكرك، ومحررا صحفيا في السعودية إلى أن تفرغ للعمل الإعلامي بالثورة ومؤسسات فتح ومنظمة التحرير، ومؤسساتها الصحفية والإعلامية والقيادية التنظيمية. سبق لي أن قرأت شهادات إنسانية مميزة لبعض طلابه الأردنيين في بلدة عي في محافظة الكرك، وثمة شهادات لابنته سماء وعدد من أقاربه ورفاق دربه ممن عملوا معه، وكلها شهادات تؤكد مدى اندغام هذا الإنسان في رسالته الثورية إلى درجة تماهيه المطلق مع مهماته المتعددة الجوانب والمجالات، وتمسكه الشديد بأخلاق وسجايا المناضل الثوري والزهد في كل الامتيازات التي كانت توفرها له مناصبه ومواقعه التي شغلها.

كانت لديه "فسح" واستراحات قصيرة ومحدودة جدا ينتزعها من يومه المثقل بالواجبات والمسؤوليات الجسيمة، فكان يحوّل هذه اللحظات الصغيرة إلى اوقات مترعة وغنية بالبذل والعطاء والحب سواء لأسرته أو لأبناء قريته وأهله أو لرفاق دربه، لأن هذه اللحظات بالتحديد هي الراسخة في وعي كل من عرفه وتذكره، مع أنها قد تكون عادية جدا لدى كل اب أو قريب، وزميل لكن رسوخها يؤكد صدقها وعمقها لرجل يمكن تأليف مجلدات كثيرة عن عطائه السياسي والأدبي والثقافي المتعدد، ويبدو انه -مثل غسان كنفاني- كان يحس أن العمر قصير جدا فما عليه سوى القيام بكل شيء، إبداعا وكتابة وتنظيرا وعلاقات سياسية ودولية، في أسرع وقت ممكن قبل اغتيال يترصد عند أية زاوية شارع، وما أكثر الاغتيالات الإسرائيلية للمثقفين الفلسطينيين على وجه التحديد في تلك الحقبة.

يرى معظم الباحثين والمطلّين على تطور تنظيم فتح، أن ماجد ابو شرار كان أحد أبرز قادة التيار اليساري في حركة فتح، نظريا ومعرفيا، إلى جانب قادة آخرين معروفين، معظمهم اخذ طريقه للانشقاق عن حركة فتح لاحقا فيما عرف بحركة فتح الانتفاضة في الفترة بين الخروج الفلسطيني من بيروت في أيلول 1982 وعلى امتداد العامين 1983 و1984، من بين هؤلاء القادة اليساريين كان كل من نمر صالح ( أبو صالح) واسحق مراغة (أبو موسى) وأبو خالد العملة، وسميح أبو كويك (قدري)، وناجي علوش ومنير شفيق والياس شوفاني، كان ماجد اقرب للخط السوفييتي بينما كان بعض المذكورين في هذه القائمة اميل للخط الماوي أو الجيفاري وبعضهم (منير شفيق) وهو المسيحي اصلا تبنى منطق الثورة الإسلامية، ويضيف بعض هؤلاء الدارسين أن استشهاد ماجد سرّع في انشقاق معظم هؤلاء القادة عن فتح، لأن مكانة ماجد التنظيمية والنضالية، وحيويته الفكرية المستندة إلى دوره النضالي ، أكسبته وزنا اعتباريا كان كفيلا بمنع الانشقاق الذي لم يكن مجرد خيار فكري أو سياسي، بل إسفينا دُقّ في قلب الثورة الفلسطينية فشتت جهدها، واضعف قوى المعارضة الديمقراطية لسياسات الاستفراد والبيروقراطية التي انتعشت في الجسم الرسمي للحركة بعد ذلك.

حركة فتح التي تواجه منذ سنوات أزمة تنظيمية وسياسية عاصفة تكاد تطيح بدورها في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، أزمة قيادة واتجاه وخيارات كفاحية وهوية وعلاقات وطنية وأوضاع داخلية تنظيمية، هذه الحركة هي أحوج ما تكون لاستذكار واستحضار نموذج ماجد أو شرار، الثائر المتفاني، المثقف العضوي المشتبك، في وقت اختلطت فيه مهارات القيادة بالتجارة، والفهلوة بالشطارة، وامّحت فيه الحدود والضوابط بين التكتيك ومتطلبات القبول من الراعي الأميركي غير النزيه.

استحضار نموذج ماجد ، ومثله كثيرون بالطبع، يمكن أن يساعد حركة فتح على استعادة هويتها الأصيلة كحركة تحرر، تنظيم يناضل من أجل تحرير الوطن، لا مجرد حزب سلطة ولو كان ذلك على حساب خراب الوطن وقيم الوطنية، فتح وجدت لتحرير فلسطين وليس لمناكفة حماس أو الجبهة الشعبية.

أخيرا، ليس أجمل مما كتبه محمود درويش عن ماجد ابو شرار

" صباح الخير يا ماجدْ ... صباح الخيرْ ...قم اقرأ سورة العائدْ ... وحث السيرْ

إلى بلدٍ فقدناهُ ... بحادث سيرْ ....صباح الورد يا ماجدْ ... صباح الوردْ

قم اقرأ سورة العائدْ ... وشدّ القيدْ ....على بلدٍ حملناهُ كوشم اليدْ

صباح الخير يا ماجدْ ... صباح الخير والأبيضْ قم اشربْ قهوتي، وانهضْ ...

فإن جنازتي وصلتْ. وروما كالمسدّس، كلّ أرض الله روما، يا غريب الدار، يا لحماً يغطّي الواجهات وسادة الكلمات، يا لحم الفلسطينيّ،

يا خبزَ المسيح الصلبَ، يا قُربان حوض الأبيض المتوسط... اختصر الطريق عليك يا لحم الفلسطيني، يا سجادة الوثني، يا كهف الحضارات القديمة، يا خيام الحاكم البدوي،

يا درع الفقير ويا زكاة المليونير، ويا مزاداً زاد عن طلبات هذي السوق،

يا حلم الفلسطينيّ في الطرقات، يا نهراً من الأجساد في واحدْ.

تجمّع واجع الساعدْ. ويا لحم الفلسطينيّ فوق موائد الحكّام،

يا حجر التوازن والتضامن بين جلاديكَ. حرفُ الضاد لا يحميك، فاختصر الطريق عليك يا لحم الفلسطينيّ.... يا شرعية البوليس والقديس إذ يتبادلان الإسمَ، إذ يتناوبان عليك يمتزجان، يتّحدان، ينقسمان مملكتين، يقتتلان فيك، وحينَ تنهض منهما يتوحّدان عليك يا لحم الفلسطينيّ!

 

اشارات