ماذا لو مكث عبد الرزّاق جورنه في زنجبار؟

ماذا لو مكث عبد الرزّاق جورنه في زنجبار؟

ماذا لو مكث عبد الرزّاق جورنه في زنجبار؟

حسن مدن

 

هذا ما تفعله "نوبل للآداب" كل عام، ففي مثل هذا الوقت، وسنويّا، ينشغل عالم الأدباء والصحفيين والإعلاميين، وحتى القرّاء بهوس التوقعات بمن ستذهب إليه الجائزة، وهناك دائماً قائمة من الأسماء «الثابتة»، ممن يُرى بأنهم جديرون بنيلها، خاصة أنها تذهب غالباً لمن هو أقل أهميّة، فيما أعمال الأوليين لم تنتظر أن يفوز أصحابها بالجائزة كي تشقّ طريقها إلى الترجمة نحو لغات الدنيا في المشارق والمغارب من الأرض، وكما هي العادة سنويّاً، تأتي المفاجأة المدوّية بفوز اسم لم يسمع به أغلبية الناس من قبل، ليسكت المتوقعون، فيما يتجرع المنتظرون للفوز الخيبة المرّة إياها.

بعد إعلان فوز الكاتب التنزاني الأصل، البريطاني الجنسية، عبد الرزاق جورنه، كتب الروائي السوداني أمين تاج السر على صفحته في «فيسبوك» يقول: «لا أحد قرأ لجرنه، ومع ذلك سيكتب كثيرون أنهم قرأوا له. إنها معجزة نوبل في كل عام»، ساخراً من كثر سيزعمون أنهم يعرفون أدب الرجل جيداً، علينا ألّا نصدّق ذلك، فما إن يعلن اسم الفائز حتى تستنفر المنصات الإعلامية، أكانت التقليدية منها، مسموعة ومقروءة، أو وسائل التواصل الاجتماعي، باستعادة كل ما كتب عن الفائز أو ما قاله هو عن نفسه في لقاءات سابقة معه.

جائزة "نوبل" للآداب لا تصنع فقط حدثاً أدبياً باختيارها لاسم الفائز أو الفائزة كل عام، وإنما تصنع أيضاً، وربما في المقام الأول، حدثاً إعلامياً بنكهة ثقافية، حين تجعل من كل ما يتصل بالفائز مادة تداول إعلامي تستغرق أياماً وربما أسابيع، ولمَ الدهشة من ذلك؟، أليست مهمة الإعلام هي ملاحقة الحدث، كما يقال؟.

للأمر بُعد آخر، دعونا نَقُلْ عنه بالبعد التجاري، وهذا، على الأرجح، ما عنته الأديبة العراقية لطفيّة الدليمي التي كتبت تقول: "المسألة أصبحت تجارة حتى قبل أن تكون توجهاً سياسياً. دور النشر العالمية لها صوتها وسطوتها في الجوائز، فهي لن تربح شيئاً من اسم كونديرا وغيره من الذين ترجمت أعمالهم لكل اللغات، فيأتون باسم يثير فضول القارئ الغربي ليشتري ويقرأ". ويمكن أن نضيف إلى كلام الدليمي أن الأمر لا ينحصر في القارئ الغربي وحده، وإنما يشمل كل قراء المعمورة.

ولأن الفائز هذا العام ليس أبيض البشرة والسلالة، جرى الاحتفاء بكونه ملوّناً، كون ذلك كسر التقليد المهيمن في اختيارات لجنة الجائزة طوال تاريخها، بمنحها لكتّاب بيض غربيين، أوروبيين وأمريكان شماليين؛ لأن الغرب لا يصنف أمريكا اللاتينية غرباً، فهي في منظوره "عالم ثالث" ليس أكثر، ولكن هل يمكن إغفال أن لغة الكاتب الفائز هي الإنجليزية، وأن مكان إقامته غربي، لا إفريقي؟، فإلى أي درجة يعتبر فوزه بالجائزة فوزاً لإفريقيا، كونه مولوداً في بلد إفريقي، هو الذي يقيم في بريطانيا ويكتب أدبه بلغتها الإنجليزية، لا بلغته الأم، أي السواحلية.

أين الغلبة هنا في «هويّة» جورنه، أهي في منبته الإفريقي، أخذاً بعين الاعتبار جذوره العربية أيضاً، كونه، كما يقال، يتحدر من أجداد من حضرموت هاجروا إلى زنجبار التي كانت لفترة تحت الحكم العماني - العربي، والتي هي جزء من تنزانيا اليوم، أم إلى مستقره البريطاني وإلى اللغة الإنجليزية التي بها يكتب؟ ولنصغ سؤالنا بشكل أبسط: هل كان عبد الرزّاق جورنه سينال "نوبل" للآداب لو أنه مكث في زنجبار ولم يهاجر إلى بريطانيا، ولو أنه كتب ما كتب باللغة السواحلية لا بالإنجليزية؟

هذا سؤال ليس أكثر، وليس بوسعنا الجزم بأية إجابة، مع ترحيبنا بالطبع بأن تخرج الجائزة من هواها «الأبيض» الغالب، وأن تذهب لكاتب هو في النهاية إفريقي الأصل والهوى، وأن لا تبرز غائية سياسية طاغية في اختياره، كتلك التي تمنح لكاتب من الصين مثلاً، فقط لأنه معارض لنظام الحكم في بلاده دون أن يعني ذلك أنه الأجدر من بين أقرانه الصينيين، فلجنة الجائزة سببت منحها لجورنه ب «سرده المتعاطف الذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات»، هو الذي سبق له أن دعا أوروبا إلى «اعتبار اللاجئين الوافدين إليها من إفريقيا بمثابة ثروة»، مشدداً على أن هؤلاء «لا يأتون فارغي الأيدي»، وفي العبارة الأخيرة كبير مغزى، فالمهاجرون إلى أوروبا، لا ياخذون منها فقط، وإنما إليها يضيفون أيضاً.

تقول سيرته الأدبية إنه اعتنى في رواياته ب«تجارب المهاجرين في المجتمع البريطاني المعاصر»، وتروي إحدى رواياته «أدماييرينج سايلنس» قصّة شاب يغادر زنجبار ويهاجر إلى بريطانيا حيث يتزوّج ويزاول التدريس، وتؤثّر فيه سفرة إلى بلده بعد عشرين عاماً من مغادرته إلى حدّ كبير وتلقي بظلالها على زواجه.

بالإضافة إلى مجموعة من الروايات، فإن له أيضاً عدداً من الإصدارات الأكاديمية التي انشغل فيها على دراسات ما بعد الكولونيالية، وهو التخصص الذي يُدّرسه في جامعة كِنْت، وفي ردٍ على سؤال وجه إليه في مقابلة ترجمها إلى العربية أحمد شافعي عما إذا كان يعتبر نفسه كاتب أدب ما بعد كولونيالي، أجاب جره: "لست متأكداً إن كان بوسعي أن أطلق على نفسي أي شيء عدا اسمي".

وفي المقابلة نفسها قال: "أريد فقط أن أكتب بأقصى درجة أستطيعها من الصدق، ثمة أشياء تشغلني وأريد أن أستكشفها وأكتب عنها".