بينيت لا يريد حرباً ولا سلاماً؛ فقط ترسيخ الأبارتهايد
بينيت لا يريد حرباً ولا سلاماً؛ فقط ترسيخ الأبارتهايد
بقلم: ميرون رابوبورت
بعد أن قابل وزير دفاعه، بيني غانتس، الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، قال مصدر مقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، الأسبوع الماضي: "لا توجد عملية دبلوماسية مع الفلسطينيين، ولن تحدث".
وبهذا، يكون تم الكشف عن عالم بينيت الروحي؛ إنه عالم لا وجود فيه إلا لإسرائيل، وإسرائيل وحدها دون غيرها، حيث لن يتمكن الفلسطينيون بتاتاً، ولا تحت أي ظرف من الظروف، حتى لو غيروا مواقفهم، من الحصول على المساواة مع الإسرائيليين والتفاوض معهم كأنداد. هناك مصطلح لذلك، إنه العنصرية.
قبل ما يقرب من عقد من الزمن، دخل بينيت عالم السياسة الوطنية، بعد أن شغل منصب مدير مجلس "يشع"، المؤسسة الاستيطانية الرائدة، رغم أنه هو نفسه لم يكن مستوطناً في أي وقت، ولم يعش خارج الخط الأخضر. ينقل عنه الآن قوله في مقابلة شهيرة: "إن المشكلة الفلسطينية أشبه ما تكون بشظية في القفا".
لم تتغير اليوم مقاربته تلك، رغم أنه بوصفه رئيساً للوزراء، قد يعبر عن مواقفه بشكل أقل فظاظة، كما اعترف بنفسه قبل أن يتسلم المنصب في مطلع حزيران.
عبر بينيت عن هذه المقاربة في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" قبيل القيام برحلته الأخيرة إلى واشنطن، حيث قال: "لن تقوم الحكومة بالضم، ولن تقيم دولة فلسطينية، والجميع يفهمون ذلك. بل سوف تمضي إسرائيل في السياسة المعتادة المتمثلة في النمو الطبيعي للمستوطنات في الضفة الغربية".
من خلال هذا القول، أصبح بينيت أول رئيس وزراء إسرائيلي، ربما فيما عدا غولدا مائير في السنوات التي سبقت حرب 1973، يعرض ما يعتبر أبارتهايد (فصلا عنصريا) كمنصة سياسية.
ديمومة الوضع القائم
صحيح أن سياسة "إدارة الاحتلال" قديمة قدم الاحتلال الإسرائيلي نفسه، ففي العام 1973، على سبيل المثال، قال وزير الدفاع آنذاك، موشيه دايان: "يجب علينا التخطيط مسبقاً لأعمالنا في المناطق (التي استولت عليها إسرائيل في حزيران 1967)... حيث لا تكون حالة "اللا حرب واللا سلم" شيئاً لا يمكننا تحمله... سلطة القرار بشأن ما الذي يحدث في المنطقة الواقعة بين السويس وجبل الهرمل هي في يدي الحكومة الإسرائيلية. لن نحدد تخوم مستوطناتنا، ولن يهددنا الجمر المحترق".
إلا أن الفلسفة التي صاغها دايان حينذاك لا تزال قائمة، وكل رئيس وزراء منذ ذلك الوقت، ربما باستثناء إسحق رابين - الذي بات متعذراً معرفة إذا ما كان فعلاً يقصد كسر القالب بسبب اغتياله - تبنى تلك الفلسفة بأشكال متعددة: "لا حرب ولا سلام" أو، بكلمات أخرى، استمرار الوضع القائم. ولكن بعد سبعة أشهر فقط غدا "الجمر المحترق" الذي نبذه دايان عاصفة اللهب التي أشعلت حرب تشرين الأول من العام 1973، والتي قتل فيها الآلاف في الجانبين، وتمخضت عن إجبار إسرائيل فيما بعد على إعادة شبه جزيرة سيناء إلى مصر.
إلا أن بينيت ذهب خطوة إضافية. فحتى دايان وصف "المناطق" المحتلة من قبل إسرائيل بأنها "وديعة" ستعاد مقابل اتفاق سلام يحقق لإسرائيل متطلباتها. ومنذ تسعينيات القرن الماضي ورؤساء إسرائيل يناقشون، على الأقل رسمياً، تأييد حل الدولتين، بمن فيهم أرئيل شارون بل حتى بنيامين نتنياهو، الذي تبنى فكرة الدولة الفلسطينية في خطابه في بار إيلان، العام 2009. كما أنه قبل كذلك في العام 2020 خطة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، التي تعرف باسم "صفقة القرن"، والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية، ولئن كانت مشلولة ومفتتة.
في مقابلته مع صحيفة "نيويورك تايمز"، قال بينيت إن الوضع القائم والمتمثل في حالة "اللا حرب واللا سلم" ليس وضعاً مؤقتاً، بل إنه الحالة الدائمة التي يتطلع إلى تكريسها.
في هذا الوضع سوف تستمر إسرائيل، من ناحية، في حكمها العسكري للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسوف تستمر في منح المواطنين اليهود في الضفة الغربية حقوقاً تفضيلية مقارنة مع الفلسطينيين.
ومن الناحية الأخرى لن تمنح إسرائيل الفلسطينيين حقوقاً مدنية مساوية لتلك التي يحصل عليها جيرانهم اليهود، كما سيكون متطلباً من قبل أي ضم جزئي أو كلي للضفة الغربية. وهذه المقاربة أيضاً لها اسم، إنه الأبارتهايد، ويعتقد بينيت أنها المقاربة الوحيدة الممكنة.
تقليص الصراع"
لا نعرف بالضبط ما الذي قيل أثناء محادثات بينيت مع الرئيس جو بايدن ومع وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، ولكن لم تُسمع، على الأقل في العلن، أي تحفظات أميركية حول مواقف بينيت، ولا حتى أحزاب يسار الوسط في إسرائيل مثل "العمل" و"ميرتس"، والتي تشكل جزءاً من ائتلاف بينيت، عبرت عن أي احتجاج، وهذه سابقة خطيرة.
ولكن سيكون غاية في التبسيط القول إن حكومة بينيت ستكون أكثر يمينية أو أكثر عنفاً تجاه الفلسطينيين، بل لربما كان العكس هو الصحيح.
فأولاً، جاء بينيت إلى المنصب من موقع يتسم بالضعف السياسي. فهو يترأس حزباً صغيراً لديه ستة مقاعد في الكنيست من بين مئة وعشرين، ومعظم أعضاء ائتلافه أكثر يسارية منه.
حينما كانت الحكومة الحالية لا تزال رهن التشكيل، أو ربما بعد تشكيلها مباشرة، بدا بينيت وساعر كما لو كان كلاهما يتخلى عن فكرة "إسرائيل الكبرى" و/أو "الضم"، وبدلاً من ذلك يعتنقان، جزئياً أو كلياً، المفهوم السياسي الجديد القائم على فكرة "تقليص الصراع".
منشأ هذا المصطلح ميكاح غودمان، وهو إسرائيلي من أصول أميركية يعيش في إحدى مستوطنات الضفة الغربية، والذي غدت كتبه حول الصراع من الكتب الأكثر مبيعاً.
يقول غودمان إن اليسار في إسرائيل فشل في إنهاء الاحتلال أو في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بينما أخفق اليمين في فكرته حول "إسرائيل الكبرى".
وبناء عليه، وبدلاً من الحديث عن إنهاء الصراع أو الاستمرار في الوضع القائم، ينبغي البحث عن سبل من أجل "تقليص الصراع"، لتمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم بأنفسهم بقدر ما يمكن من الاستقلالية، بينما يترك أمر "الأمن" لإسرائيل. ويقول غودمان إنه بعد تقليص الصراع سيكون من الممكن مناقشة الحل الدائم.
كان غودمان مستشاراً لساعر ويعتبر مقرباً من بينيت، وقد كان نفوذه ملموساً في المقابلة التي أجريت مع بينيت قبل تسلّمه المنصب، حيث قال فيها: "تقوم مقاربتي على تقليص الصراع، حيث سيكون من الممكن توفير المزيد من المعابر، ومستوى أفضل من المعيشة، والمزيد من الأعمال، والمزيد من الصناعة ... سوف ننجز كل ذلك".
مثّل ذلك بالنسبة لبينيت نقلة كبيرة. فعندما دخل عالم السياسة الوطنية في العام 2013، تقدم بينيت بخطة مفصلة لضم المنطقة ج، والتي تعادل ما يقرب من ستين بالمائة من مساحة الضفة الغربية. وكان عبر سنين متعاقبة ينتقد نتنياهو والجيش الإسرائيلي لعدم ممارسة ما يكفي من العنف تجاه الفلسطينيين ولعدم "الحزم" بما فيه الكفاية مع "حماس".
ظل بينيت لعقود يدفع باتجاه الضم، ولكن عندما وقعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين اتفاقيات أبراهام في العام 2020 أدرك أن ذلك سيكون مستحيلاً. كما فهم أنه بات من المستحيل أيضاً التوصل إلى "حل نهائي" للصراع من خلال نصر يحرز على الفلسطينيين يكون ساحقاً ماحقاً بحيث يجبرهم على التخلي عن تطلعاتهم الوطنية، ومن هنا فإن تبنيه لفكرة "تقليص الصراع" كان ثمرة للفشل أو الضعف، حتى لو كان يرفض الإقرار بذلك.
اليمين الإسرائيلي في أزمة
ثم إن بينيت انعكاس للحالة التي يعيشها اليمين الإسرائيلي. فهو من ناحية يقدس الوضع القائم ولا توجد لديه رغبة أو نية في التخلي عن الاحتلال أو إنهاء الفصل العنصري (الأبارتهايد)، ومن ناحية أخرى يفقد اليمين بالتدريج إيمانه بقدرته الذاتية على صياغة واقع العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية بالشكل
الذي يراه مناسباً.
ينبغي رؤية سقوط نتنياهو في هذا السياق، ففي ظل نتنياهو كان اليمين في إسرائيل موحداً في كتلة متوافقة متجانسة، ثم أفضت التناقضات داخل اليمين، والتي يمثلها بينيت، إلى تفتيت الكتلة وقيام حكومة مختلطة تشتمل على عناصر من اليمين ومن اليسار، بما في ذلك القائمة الموحدة، وهي حزبعربي إسلامي يترأسه منصور عباس.
لا يبدو للناظر من الخارج أن كل هذه التحولات قد أثرت على الوضع في الميدان. فقد استمر الاحتلال واستمرت المستوطنات، ولا يزال الخطاب السياسي في إسرائيل في أحسن أحواله محشوراً أو يقدم أطروحة بينيت التي تقوم على فكرة "اللا سلام واللا حرب". فإسرائيل في وضعها الحالي في غاية المنعة - عسكرياً واقتصادياً - ولابد أن يطرأ تطور مهم يهدد سلطانها على الفلسطينيين وسطوتها في الشرق الأوسط كله.
ولكن في الوقت ذاته لا يمكن للمرء تجاهل التصدعات، فاليمين العقائدي في إسرائيل في ورطة، والسؤال المطروح هو كيف وإذا ماكان بإمكان اليسار الراديكالي في إسرائيل، بل الأهم من ذلك إذا ما كان بإمكان الفلسطينيين تحويل ذلك لصالحهم.
قال لي ناشط يساري مناهض للاحتلال: "حيثما وجد صدع علينا توسيعه ليصبح هوة، وحيثما وجدت هوة علينا توسيعها لتصبح فجوة أعمق". لعل تلك المقاربة تحقيق شيئاً.
عن "ميدل إيست آي"