لكَ الحكاية... إلى أخي محمد الحوراني، شعر: المتوكل طه
لكَ الحكاية (إلى أخي محمد الحوراني)
شعر: المتوكل طه
البهيّ،أو الصوفيّ الذي أطعمنا من خبز قلبه،وكان السجن جميلا معه!إذا غنّى صار الليلُ نهاريّاً،يذوب على الخيام،ويتراءى مثل عباءة النبيّ خلف السياج.إن تحدّث امتلأت أحلامُنا بالمدائن الحرّة الذهبية.هو المُصاب بالليل،لأنه ينتظر النهار.الودود مثل جدّة،السلس مثل الماء،والماطر كأنه غابة ساخنة..ونحبّه.
*
ما زلتَ في الأرضِ التي شَهِدَتْ خُطاكَ..
وكنتَ في ثوبِ الغمامةِ،
منكَ خيطُ البرقِ،
يكبرُ مثل أشجارِ السهول.
وربّما حملتكَ ريحٌ للجهاتِ،
وغبتَ عن عشبٍ تطاولَ في غيابكَ
مثل نارٍ في الحقول.
أوَ ما تزالُ لكَ الحكايةُ،
من بداياتِ الشرارةِ في الرّبابةِ،
إذ تحزُّ بحُزنِها الضاري الصُدورَ،
ودبكةَ الفتيانِ،
والوردَ المُدَمّى والخَجول!
ودبّغَتْكَ يدُ المواسمِ،
قد تبقّى في قميصكَ ماءُ رُمّانٍ
تفلّعَ من نِصالِ النّايِ، حتى رُحْتَ، من شجنٍ،
تُراقِصُ غصنَ برقوقٍ،
وتبحثُ عن صديقٍ في الوعول.
ما زلتَ تنفثُ جَمْرَ حرفِكَ في الظلامِ
لنقطعَ الوحلَ المُريبَ،
وينجلي عن بيتنا ليلٌ يطول..
وأراكَ طفلاً يُطلقُ الألوانَ
في الأُفقِ المُضاءِ بألفِ مذبحةٍ،
وفارسُنا الذي تاهت به الدنيا، سيصحو،
مرّةً أخرى،
وتُسْعِفنا الخيول.
وأراكَ، تغلبكَ الدموعُ، فقلبُكَ الطفلُ اليمامةُ
لم يصدِّق أنّ ثمّةَ سارقاً يسطو،
ومفتوناً، بشمسِ الحيِّ، أرداهُ العَذول.
*
قد قيلَ ما قد قيلَ.. لَكِنّي هنا
في السنديانةِ والمآذنِ والدوالي،
أحفظُ الطرقاتِ والأحجارَ والدَبكاتِ،
أنقشُ في الدفاترِ بُرْجَها القُزَحِيَّ،
أعلو بالبُراقِ،
وأحضن الوديانَ والتلّاتِ في قلبي،
وأحفظُ سورةَ الإسراءِ والمهدِ الصَّبيِّ،
ورحلةِ الشوكِ الثقيلِ،
ودمعتين لمريَمَيْن؛
رسولةِ الدنيا وفاطمةَ البتول.
وأنا هنا ..
ولنا نجومٌ لا تغيبُ إذا أتينا بيتَ أُمّكَ!
ثَمَّ تفّاحٌ قتيلٌ في السِلالِ،
وثَمَّ قَوسٌ في سماءِ فَراشةِ الشفتينِ،
إنْ ضَحِكَتْ يُضيءُ،
وإنْ تَمَلَّكَها السكوتُ تدفّقت فينا السّيول.
وهل أتاكَ البحرُ، ليلاً في المنامِ،
وخلْفَهُ بيّارةٌ بيضاءُ من زهرِ الشتاء،
وهل شربتُمْ قهوةَ العَبقِ الرّخيِّ،
وهل بكى،
إذ إنَّ حورياتِه ما زِلْنَ في الكهفِ البعيدِ،
وإنّ مركبَ عاشقين مضى.. وساورَهُ الأُفول!
تلك السحابةُ قد دَنَتْ من عاتِقيكَ،
سمعتُها تحكي وتهمسُ: هل تقول اسْقِ العطاشى!
لم يكن لك أيُّ غصنٍ في المكانِ،
وإنّما نُبْلُ الرجالِ يُجَمِّعُ الماءَ الزلالَ
ويُطلقُ الرّعدَ المَهول.
ولنا السرائرُ.. أوصَلَتْنا للذئابِ وحكمةِ الصوفيِّ،
لكنّ الرُّعونةَ قد تعاكِسُ كلَّ مَنْ نادى،
فهل سنعودُ للسجنِ البعيدِ لِنستريحَ،
ونهْجرَ المُتَعَ الصغيرةَ..
إنها آلٌ يزول!
لي زهرةُ النارنجِ، أقطفُها وأمضي،
لا أرى الشاراتِ أو أتحسَّسُ الشيبَ الغزيرَ،
وكَم حَمَلتُ سنابلي للنارِ،
كم يتجرّأُ الشعراءُ إنْ صدَفوا الحِسانَ!
وقد يظنّون التي مَلَكَتْ تعاويذَ النّحولِ
تكون باباً مُشرعاً لخميلةِ النعناعِ..
هذا محضُ وَهْمٍ، أنّها الفرَسُ الذَّلول!
لكنني، سأغذُّ خَطْوي..نحو بيتكَ
كم أُحِبُّكَ!
أنتَ مرآتي،
وألمحُ في عُلوِّكَ سربَ شنّارِ الربيعِ الدارجِ المكحولِ،
أو أني أحبُّ النورَ في وجهِ البلادِ،
وأنني سأدقُّ قلبي بالأغاني في فضائِكَ،
كي تدبَّ اللُّجةُ البلّورُ في قَلبِ الطُبول.
هل أذهَلَتْكَ فَراشةُ الصّوّان، عند الموقَدِ الحجريِّ،
هل ما زِلْتَ تمطرُ بالسخونةِ،
أو تبيعُ على الطريقِ دفاترَ الحَبقِ الجريحِ،
لمَن تمشَّوا مُسرعين..
إلى الغموضِ السافرِ العاري،
وتهجسُ بالهطول؟
*
أنا يا صديقي أنتَ، قد تتبايَنُ الأشجارُ،
لكنّ الحدائقَ والحرائقَ ما يُوَحِّدُنا،
ونبقى مثلما كُنّا؛
شيوخاً أو صغاراً أو حكايا للكهول..
يا أنتَ!
مندهشاً ستبقى مثل مخمورِ الجَمالِ،
وإنْ تلا إصحاحَهُ الشعريَّ يأتي بالقُرى
ويحطُّها،
فتدفُّ مثلَ نوارسٍ وحشيةٍ في قاعة الدنيا..
ويأخُذُنا الذُّهول.
ولربما مَضَتِ السُّنونُ بنا،
بلغنا شُرفةَ الثَّلْجِ المُمِضِّ،
وقد يكون الشيبُ أثقلَ من غيابِ الَلمّةِ الأولى،
ولكنّي أعودُ، لكي أراكَ بزفّةِ النَّحلِ،
التي مارَت ببستانِ الفُتوّةِ،
أو تصبُّ على فمي الظمآنِ كاساتِ الشَّمُول..
فَثَمَّ بَيْنٌ بين أيِّ خميلةٍ غنّاءَ كانت..
والخمول.
وثَمّ فرقٌ بين مَنْ هَرِموا مع الذكرى..
ومَيْعاتِ الشُبول.
وثَمَّ أزمانٌ ستضحكُ يا شقيقَ السِّرِ،
يا رقصَ الغزالِ مع الأعاصيرِ الحميمِةِ،
يا سماءَ براءتي الأولى،
ستضحكُ..
من حكاياتٍ تؤولُ ولا تَصول.
لكنني الجَرسُ المُدوّي فوقَ أمواجِ الميولِ،
وأنتَ مَنْ يبقى على مَدِّ العقودِ - قطوفَها الأحلى
وعُنقودَ العَسول..