كتّاب وراء القضبان

كتّاب وراء القضبان

رام الله- في التاريخ الفلسطيني، وفي الواقع الحالي كذلك، يعدّ الاعتقال من المسلمات الحياتية اليومية، فوجود احتلال يعني وجود رفض له، وحين يُعبَّر عن هذا الرفض بأي شكل من الأشكال، يأتي الرد بالقتل او الاعتقال.

وبما أن الكتّاب جزء لا يتجزأ من شعبنا الفلسطيني، فإن بعض هؤلاء المعتقلين، سيكونون من فئة الكتاب بالضرورة، وهنا تبدأ المقاومة الفعلية لفكرة الاعتقال لدى الكتاب بالظهور، لتخرج على شكل كلمات من وراء الأسلاك الشائكة، وخفية عن بارودة الحرس.

أدب المعتقلات في فلسطين منذ البدايات إلى الآن

كتب الشيخ سعيد الكرمي الشعر بعد أن حكم بالإعدام الذي استبدل بالمؤبد لأنه ناهض الحكم التركي، وكتب عوض النابلسي المواويل التي ما تزال تغنى إلى اليوم، قبل أن تقوم بريطانيا بتنفيذ حكم الإعدام فيه، وكتب حنا أبو حنا من سجنه عام 1958، وكتب أسعد عبد الرحمن "أوراق سجين"، وكتب محمد خليل عليان "ساعات ما قبل الفجر"، وكتب كثيرون مثل: محمد أحمد أبو لبن، وعبد الفتاح حمايل، وعزت الغزاوي، وسامي الكيلاني، وجبريل الرجوب، والقائمة طويلة في هذا المضمار.

حتى نهايات القرن العشرين، وُسِمت كتابات المعتقلين بالنبرة النضالية العالية والتحريضية، والتي تغزلت بالأرض والوطن والمناضلين والشهداء، والرفض المطلق للمساومات على الحرية... إلخ.

لكن جيلاً جديدا من المعتقلين الكتّاب، بدأوا في التخلي عن فكرة "السوبرمان" في الكتابة الإبداعية التي أنتجوها، وأصبحوا يصورون الفلسطيني "كإنسان" له رغباته وأحلامه، ونقاط ضعفه واشتياقه، إنسان يعبر عن حرمانه وحزنه وضيق صدره بالاعتقال، فأصبح الأدب الذي يكتبونه أقرب إلى الأدب الإنساني العميق الذي يوازن بين العملية النضالية والعملية الحياتية، فالحب: أن تحب وطنك وحبيبتك، وأن تحب نفسك.

وقال الروائي والأسير المحرر عصمت منصور لـ"وفا": "إن أدب المعتقلات شهد ما بعد اتفاق أوسلو وتحديدا في أعقاب الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) نهضة كبيرة وغزارة في الإبداعات، وخاصة في مجال الرواية والقصة، وذلك بسبب التغيرات التي طرأت على المجتمع الفلسطيني والأسرى، من حيث العدد ومستوى التعليم، والأهم ما يتعلق ببنية المجتمع، والقيم المجتمعية، التي باتت تفرد مساحة أوسع للتجارب للفردية والهم الذاتي كتكثيف للهم العام، والجرأة أكثر على التجريب والغوص في العوالم الداخلية، بعيدا عن الشعارات والخطابة.

أدب السجون رغم كثافة الإنتاج لا زال حقلا بكرا وغير مدروس بشكل وافٍ، ولم يلقَ حقه في النقد، بما يضمن تطوره، ونضوجه، وخروجه من المحلية، وانتقاله إلى مرحلة العالمية".

كانت الكتابة في ذاتها عملية نضالية، وهنا لا نقصد طبيعة الكتابة، بل الكتابة ذاتها، فقد قام المعتقلون دائما "بتهريب" الورقة والقلم، وهما يبدأون شيئا عاديا في عملية الكتابة، إلا أنها في السجن ليست كذلك، فمن خلال زيارة الأهالي أو المحامين، وكانوا يكتبون أحيانا على أوراق علب السجائر، أو مغلفات الزبدة واللبنة، أو أي وسيلة متوفرة.

كانت المواد الثقافية من أهم مطالب إضرابات المعتقلين عن الطعام فترة السبعينات والثمانينات، فطالبوا بإدخال الكتب والصحف والدفاتر والأقلام، وبعد كثير من المماطلة، رضخت إدارة السجون للأمر، بعد الإضراب الكبير عام 1970، إلا أنها وضعت قيودا تمثلت في إخضاع المواد المكتوبة للرقابة والفحص الأمني، وتحديد نوعية الكتب وكمية الأوراق والأقلام، ومنع أي معتقل من اقتناء أكثر من كتاب واحد.

شكلت رسائل المعتقلين إلى ذويهم نواة الأعمال الأدبية، لأنهم اضطروا إلى استخدام مجازات في الكتابة للتعبير عن أحوالهم، هرباً من تدقيق الرقابة العسكرية على رسائلهم، وهذا التمويه أنتج مع الزمن الأدب الرمزي الذي تميز به أدب السجون عامةً، لكنه في البداية كان تعبيراً عن واقع المعتقلين بشكل واضح.

نشر كتاب "كلمات سجينة"، وهو عبارة عن ديوان شعري مشترك صدر بخط اليد عام 1975، من معتقل بئر السبع، وشارك فيه محمود الغرباوي، ومؤيد البحش، ومحمود عبد السلام، وعبد الله الزق، ووليد مزهر، ووليد قصراوي، ونافذ علان، ووليد حطيني، وعمر خليل، ومشهور سعادة.

مع توالي الإضرابات والمطالبات، تنوعت الكتب الثقافية المسموح إدخالها للمعتقلات، فزادت ثقافة المعتقلين، ما أدى إلى تطور مضمون الأدب الناتج عنهم، كما أن اعتقال عدد من المثقفين والأكاديميين فترة الثمانينات لعب دورا في تطور التجربة الأدبية في المعتقلات، إضافة إلى تمكن المعتقلين من تهريب نتاجاتهم الأدبية واهتمام الصحف والمجلات بنشرها، مثل: البيادر الأدبي، والشراع، والكاتب، والفجر الأدبي، ومجلة عبير، وصحيفة الميثاق، عدا عن المؤسسات، مثل: اتحاد الكتاب.

أصدر المعتقلون عدة نشرات أدبية كانت تكتب بخط اليد وتوزع على المعتقلين، كما صدرت مجموعة من الأعمال الأدبية.

فترة الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) صدرت أعمال أدبية  للمتوكل طه، وعبد الناصر صالح، وهشام عبد الرازق، ومعاذ الحنفي، وفايز أبو شمالة، وعبد الفتاح حمايل، وعمر خليل عمر، وخضر محجز، وعزت الغزاوي، ومنصور ثابت، وحسن عبد الله، وفاضل يونس، وعلي جرادات، وعادل عمر، وعبد الحق شحادة.

بعد قدوم السلطة الوطنية، نشر عدد من المحررين رواياتهم التي كانوا قد كتبوها أثناء الاعتقال، مثل: معاذ الحنفي، ورأفت حمدونة، ووليد الهودلي.

وكتب عصمت منصور ثلاث روايات ومجموعة قصصية، نشرت روايتان منها بعد تحرره، وهي: "السلك" التي كتبت في السجن، و"الخزنة" التي كتبت ونشرت بعد تحرره، أما "سجن السجن"، ومجموعة "فضاء مغلق" فقد نشرت أثناء اعتقاله.

كما نشرت كتابات مهربة من داخل المعتقل لشعبان حسونة، عدا عن كثير من الكتب التي كتبت خارج السجن كتبها محررون عن فترة الاعتقال، مثل كتابي عايشة عودة: "ثمناً للشمس"، و"أحلام بالحرية".

وقال الروائي عبد الفتاح دولة، وهو أسير محرر، ومدير دار طباق للنشر والتوزيع لـ"وفا": إن الدار أطلقت وتبنت مشروعا ضمن نشاطاتها بعنوان "كلمات حرة"، يهدف إلى تبني وتوثيق أدب الحرية الصادر عن الأسرى من داخل سجون الاحتلال في شتى أصناف الكتابة البحثية والدراسية أو الإبداعية، وانطلق المشروع من رؤية أن الانتاج الثقافي للمعتقلين الفلسطينيين به سمات خاصة تتمايز عما يُعرف ب "أدب السجون" ويصلح أن تكون تسميته "أدب الحرية " حيث صدر في هذا السياق عن طباق رواية الأسير سامر المحروم بعنوان ليس حلما، وديوان الأسير أحمد عارضه بعنوان أنانهم، وكذلك دراسة كباسيل لعمر نزال، وكتاب ترانيم اليمامة مذكرات عشر أسيرات ومؤخرا رواية الخزنة.

مبدعون خلف القضبان:

وقال عضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب، الشاعر جمعة الرفاعي، وهو أسير محرر لـ"وفا": "إن الأدب الذي ينتجه الأسرى هو نقل لشكل المقاومة التي كانت تعتمد على الكرّ والفرّ إلى المواجهة اليومية المباشرة مع الاحتلال، كامتداد طبيعي للنضال للوصول إلى الحرية الكاملة، وإن هذا الأدب يحمل القيم الإنسانية كالحب، والحلم، ورموز الحياة من أم، وطفل، وزوجة، رافضا كل أشكل القبح المتمثل بالاحتلال من خلال حرب الإرادات، وما الكتابة تحت شرط الاعتقال إلا نمط تعبيري عن قوة إرادة الأسير الفلسطيني، في مواجهة آلة التدمير الاحتلالية.

وأدركت الحركة الأسيرة منذ البداية أهمية الكلمة، فخاضت حروبا كبيرة لتوفير كل ما من شأنه توثيق تجربة الاعتقال، وبدوره قام الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في استحداث دائرة الأسرى في أمانته العامة لتوثيق هذا المنتج الإبداعي الذي يخص الحركة الأسيرة كونها شاهدا حيّا على قبح الاحتلال وتوثيقا لأشكال المقاومة الفلسطينية المتنوعة كون الثقافية متجذرة في الأرض وتثبيتا للسردية الفلسطينية أمام ادعاء رواية الاحتلال.

وقد أصدر الاتحاد سلسلة من إبداعات الأسرى المتنوعة، كان آخرها: كتاب "القديس والخطيرة"، يتحدث عن "واقع الحركة الأسيرة في عيون روادها"، للأسير خليل أبو عرام المحكوم بالمؤبد 8 مرات، والذي أمضى أكثر من 20 عاما في المعتقل.

والاتحاد على متابعة دائمة فيما يخص الحركة الأسيرة من جمع للمواد الإبداعية، وأرشفتها، وتوثيقها، وطباعتها، وإن الاتحاد يعمل على عقد مؤتمر الأسرى لتوثيق تجربتهم الإبداعية، كما يعمل على إعداد إصدار العدد الأول من مجلة مختصة بكتاباتهم وإبداعاتهم.

الأسير باسم خندقجي، المحكوم بثلاثة مؤبدات، والمعتقل منذ عام 2003، أصدر عددا من الروايات التاريخية والاجتماعية والفلسفية، وديواني شعر، منها: ديوان "طقوس المرة الأولى" 2009، وديوان "أنفاس قصيدة ليلية" عام 2013 وقدم له الشاعر اللبناني زاهي وهبي، ورواية "مسك الكفاية" 2014، ورواية "نرجس العزلة" 2017، ورواية "خسوف بدر الدين" 2018 والتي صدرت عن دار الآداب في بيروت.

كما أصدر الأسير حسام زهدي شاهين، والمحكوم بـ27 عاماً، والمعتقل منذ 2004، "رسائل إلى قمر ـ شظايا سيرة" 2020، ورواية "زغرودة الفنجان" 2015.

عمار عبد الرحمن الزبن، المحكوم بـ27 مؤبداً، إضافة إلى 25 سنة، وله رواية "الطريق إلى شارع يافا".

كميل أبو حنيش المحكوم بـ9 مؤبدات، له عدد من الدراسات السياسية والأدبية.

وليد دقة، والمحكوم بأربعين عاماً، أصدر عددا من الدراسات السياسية والأمنية وروايات للفتيان.

كما أصدر ثائر حماد، منفذ عملية عيون الحرامية، والمحكوم بـ11 مؤبداً، رواية "فارس وبيسان".

هيثم جابر، اعتقل عام 2002، ومحكوم بالسجن لمدة 28 عاما، أصدر روايتين متفرقتين بعنوان "الشهيدة" "1578"، ومجموعة قصصية بعنوان "العرس الأبيض"، وديوان شعري بعنوان "زفرات في الحب والحرب".

قتيبة مسلم، اعتقل عام 2000، وحكم بالسجن مدة 37عاماً؛ وأصدر رواية "زنزانة وأكثر من حبيبة"، وكتاب النصوص “حروف من ذهب".

خليل أبو عرام، اعتقل في 2002، وحكم بالسجن المؤبد المكرر سبع مرات، وصدرت له عدة مؤلفات من داخل السجن من بينها كتاب بعنوان، معركة الكرامة والشرف بين شراسة الهجمة وأسطورية الصمود وإنسانية الأهداف.

منذر مفلح، اعتقل عام 2003، وحكم بالسجن 33 عاماً، وأصدر كتابا تحت تصنيف "سردية"، صدر عن دار الفاروق للطباعة والنشر في نابلس.

ناصر الشاويش: اعتقل عام 2002، وحكم بالمؤبد أربع مرات، وصدر له ديوان شعر بعنوان "أنا سيد المعنى".

ظافر الريماوي، وحسام الديك، وعمار عابد، ولهم إصدارات أيضا.

إن فكرة الأدب المولود داخل المعتقلات، لا تقف عند حد ارتقاء الروح النضالية إلى حد خلق الأدب وإبداعه، بل تتعدى ذلك إلى إجابات وجودية على السؤال الأكثر أهمية: هل يمكن أن يوجد شعب بدون أدب؟ هذا ما طرحته الكنيست الإسرائيلية في بداية السبعينات على إميل حبيبي، لو كان هناك شعب فلسطيني، لرأينا له أدباً، فقرر حبيبي أن يختصر نشاطه السياسي ويتوجه إلى الأدب، فأثبت، مع كثيرين غيره أن هذا الشعب موجود ومتجذر، لأن له أدبا ممتدا في التاريخ.

وحين يتجاوز هذا الأدب كونه أدباً، ويخرج من معتقل، من المفترض أنه صُمّم لكي يكسر الروح الفلسطينية، ويهزم القدرة على الحياة، فهذا لا يعد فقط كسرا لخطة السجان والمحتل، بل يصل إلى مرحلة الإعجاز، فحين يصدر عمل أدبي، ويتم نشره، فإن كل قوة العالم برصاصها وإعلامها وجنودها، لا تستطيع أن تقف سدا أمام انتشاره.

عن (وفا)