زينب القولق تستعيد 22 شهيدا من أقاربها في لوحات

زينب القولق تستعيد 22 شهيدا من أقاربها في لوحات

غزة- عزيزي رجل الدفاع المدني، شكرا لأنك استطعت ملاحظة تحريكي لطرف قدمي في جسد خائرة قواه، رأسه عالق للأسفل بين حجارة كبيرة، صوته غير مسموع، وظُنّ أنه جثة. شكرًا لأنك استطعت ملاحظتي في الثواني الأخيرة بعدما باتت الجرافة بجانبي وقد غرزت أسنانها قربي حتى بت أرتعش من حرارتها، وأنا عاجزة تماما عن إيصال صـوت قـد حُبـس فـي داخلـي. شكرًا لأنك صرخت بأني لست جثة، وبأن يجدوا حلًا آخر لانتشالي".!

كتبت زينب القولق هذه الكلمات على إحدى لوحات معرضها الفني الذي أقيم في الذكرى السنوية الأولى لمجزرة ارتكبها الاحتلال وأسفرت عن استشهاد العشرات من المدنين في غزة عام 2021، بعنوان: "عمري 22 عاماً وفقدت 22 شخصاً".

قالت زينب: لن تحتاج لوحاتي إلى شرح، فهي تعبّر عن نفسها. لوحاتي ترفع صوتها!

لزينب القولق (22 عاما) نكبتها الفردية الخاصة، التي وقعت فجر 16 أيار 2021، حين فقدت 22 شخصاً من أقاربها، استشهدوا، بعد أن قصفت طائرات الاحتلال بنايتهم السكنية في شارع الوحدة في مدينة غزة.

كانت زينب ترسم الحياة والبحر والنوارس والأشجار والثلوج والخيول والبيوت القرميدية والطرق الريفية، لكن بعد نكبتها، لم تعد ترسم إلا الموت ذلك الذي أحاطها وتعمق بداخلها ككابوس يومي لشدة ما تسبب من ألم بداخلها.

تقول زينب عن تلاشي فرح التخرج من الجامعة: "كانوا ينتظرون تخرجي بفارغ الصبر لنحتفل سويا، لكنني، حين استلمت شهادتي الجامعية، ذهبت إلى المقبرة لأخبرهم بتخرجي!"

تقول زينب أن اصعب لوحة رسمتها، تلك التي قارنت فيها بين صورة جماعية للعائلة، وأخرى حقيقية كانت عائلتها التقطها لحظة تخرج شقيقها طاهر، في الصورة الحقيقية ضحك وفرح، بينما في اللوحة كان الشهداء –وهم والدتها وشقيقتها هناء وشقيقاها أحمد وطاهر- عبارة عن ملابس فارغة.

إلى جانب كل لوحة من لوحات المعرض التسع، كتبت زينب كلاماً لا يليق أن يزيد عليه أحدٌ حرفا: "اثنتا عشرة ساعة بكافة تفاصيلها كنت أراجع ذكرياتها ثانيةً بثانية وأنا أرسم اللوحة حتى أنني سمعت صوت المسعف مرة أخرى وهو يحاول معرفة مكاني تحت الركام شعرت أنـي أختنق مجددًا، كنت ألتفت باحثة عن مصدر رائحـة الرماد والتراب التـي سيطرت عليّ، حتى أنني نظرت للأرض وتخيلتهـا تـهـوي، أمسكت بهاتفي، تشبثت به، ووضعت رقم نفس المسعف أمامي، في حال أي طارئ!.

أذكـر آخـر مـا قلتـه لـه قبـل أن تنفد بطارية هاتفي، أسـمـع مـرة أخـرى صـوت هاتفي وهو يهوي مـن يـدي للأسفل ويرتطم بالركام، أرانـي وأنا عاجزة أحـاول، أراني وأنا خائرة القـوى أحاول، أراني وأنا أشاهد بطارية هاتفي تنفد وأنا ما زلت عالقة تحت الركام وأحـاول، أرانـي فـي ظـلمـة حـالكـة فـي ألـم شـديـد فـي جـروح غامرة، أرانـي وأنـا أفـقـد صوتـي وأنـا أبحـث عـن هـواء وأنـا أبتلع التراب وأحاول، ومـا زلـت حتـى اليـوم أحاول.

شكرًا لـرجـل الدفاع المدنـي الـذي أصـر علـى إنقـاذ والـدي رغم صعوبة الموقـف وبدائية الأدوات، ذلـك الـذي كاد يختنق مقابل إيصال الأوكسجين لوالـدي. شكرًا إلى جميع أفراد الرجال المدني نساءً ورجالًا الذين انتشلوني وعائلتي من تحت ذاك الركام، رغم صعوبة الموقف واستحالة أسباب النجاة، ورغم الطائرات التي كانت ما تزال تقصـف مـن فوقهم.

ربما كانت معضلة عائلتي أن الحنان يفيض منهم، صغارهم يبقون أطفالاً حتى وإن كبروا، يطعموننـا الحـب ويسقوننا الاهتمام، أن تكون طفلًا لهذه العائلة، يعني أنه سيكون في جعبتك محاصيـل حـب مـن الأجداد للآباء للأبناء، أن يكون قلبك معلـق بجميعهم، لـم تكن تخلـو تفاصيل أيامنا منهم، فـي يـوم كهذا كنت أحصل على قبلـة مـن أمـي قبـل نومي، وحضن من أختي عند استيقاظي، تدفئ قلبي رسالة حب طويلة من أخي الأكبر ودندنة وضحك من أخي الأصغر، كنت سأحصل علـى حـضـن دافـئ مـن جـدتـي و قبـلات مـن جـدي وأمشـي ودعواتهما تحفظني، وكلمات غزل تطرأ علـي مـن عمتي، ودعاءٌ يرافقنـي مـن زوجـة عمـي،

كانت أمي ستخبرني مجددًا تفاصيل ولادتي وعيونها تلمع والحب يفيض..

أخاف الملابس المعلقة، أبكـي أرواحها الغائبة

لوحة ألوانها اختلطت بالدموع،

أقسى ما خطت يداي.

منذ سنة واحدة فقط، كان الجميع حولي، كانت المرة الأخيرة لأن يجتمعوا سويًا، لدي صور ومقاطع مصورة توثق ضحكات ذلك اليوم.

لدي صور لـم يبق منها أحد سواي.

نذوب من الفقد...

بات الليل يسكننا، كما باتت مآسيه تبتلعنا.

تخذلني ذكرياتي ومحاولاتي، كلما أردت ردم الصدع في روحي اكتشفت أنه يتسع.

لا تعلم معنى أن تحتضن أختك أو أخيك تطمئنه وقلبك يرتجف! أن تخبره ألا يخاف وأنـت الخائف!

أن يلجأوا إليك لتضحكهم أو تخبرهـم قـصـة كما اعتادوا، بينما تنظر إليهم وتتمنى أن تقول لهـم ليخبرني أنـا أحدكـم قـصـة تنسيني ما يحدث حولي.

ربما أزالوا الأنقاض من فوقي، ولكن من سيزيلها من داخلي!

لـم أتخيل يومـًا أن تضيـق علـي الأرض وتبقى المقبرة هي المكان الوحيـد الـذي أستطيع فيه إخبار عائلتي بأني تخرجت أخيرًا، لم أتصور قبلُ أني لن أكون قادرة على إخبار أمـي كـم كنت ممتنة لليالي الاختبار التي نامتها بجانبي لطمأنتي، لكل كوب قهوة أحضرتـه لـي فـي ساعة متأخرة من الليل بينما كنت أدرس، لـم أخبـر أختي هنـاء بـعـد كـم آنـسـني دعاؤهـا وأحاديثها حين كنت خائفة من الاختبار.. لـم أتخيل كيـف لأحلامنـا التـي تمنيناهـا طويلاً أن تنقلب لكابـوس بشـع، أن تنتهـي أعوام من الدراسة وقد أصبحتُ جثة ترتدي زي تخرج.

مر 12 شهرًا وأفزع من رقمهم، مر عام! يستفزني مرور الأيام وشمس كل صباح، ما زلت أنتظر أن أفتح عيناي كما عهدت دومًا على ابتسامة أمي واهتمامها المفرط بي كطفلة، متلهفة لتحضنني هناء ولو مرة واحدة. اعتدت السهر مع أحمد ليخفف عني عبء أيامي بضحكاته، ما زالت ضحكاته تتردد في أذني للحد الذي يجعلني ألتفت أبحث عنه. اشتقت لفنجان قهوة واحد مع طاهر لنفتح حديثًا ونمر بألف قصـة لـم ننـه أيًا منها ولكننا نضحك أخيرًا، لم يكن أخًا عاديًا، فقدت أخي الأكبر وصديقي المفضل. لا أستطيع الالتفات لبرهة إلا وذكرى لأحدهم أو لجميعهم تباغتني، هلكت روحي شوقًا.

ألـم الفقد يتسع، يزداد بمرور الوقت ولا يهدأ ولا يسكن ولا يصمت.

ما أنا إلا صدوع ألم تتسع وندوب لا تلتئم.

صراخ وهلع وبكاء وأصوات الصواريخ المدمرة، كان الأطفال والنساء أكثر أشخاص خائفين، لم يدركوا ما يحدث.

هذا صوت أمـي ويـد أختي ونظرة أخَوَي، وشكل الحائط الذي أمامي وهو يتشقق، وهذه الأرض التي ابتلعتنا، والمبنى الذي انهال فوقنا، ثم الأسقف التي قسمت ظهورنا والحجارة التي جرحت أجسادنا، والرماد الـذي نتنفس وأجسادنا العالقة، والظلمة الحالكة والدم الذي يسيل، وانعدام الهواء ورائحة الركام والتراب الـذي نبتلع، والحجارة اللعينة التي فصلتني عن أهلي الذين كانوا بجانبي، وصراخي وصراع أفكاري وصراخي وصراع أفكاري وصراخي.. وصراخي إلى أن تلاشى صوتي حتى اختفى تمامًا.

هـذا مـا تذكرني به الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقتما قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية بيتي الذي أسكن، حينما فقدت اثنين وعشرين فردًا من عائلتي بينما كنت أنا الأخرى أصارع الموت.

مامـا أمـل، وأختـي هـنـاء، وأخـي أحمـد، وأخي الأكبر طاهـر، جـدي أميـن، وجدتـي سعدية وعمتي بهاء، زيد، وآدم وأمهما دعاء، ووالدهما عزت، زوجة عمي ختام، وعمـي فـواز، وابنه عبد الحميد، وابنه الآخـر سـامح، وزوجته آيات، ويتوسطهم طفلهم قصـي وابنة عمي ريهام حلا، ورولا، ويارا، ووالدهم محمد.

كنت أتخيلهم واحدا تلو الآخر بداخل تلك الأكفان، كلما انتهيت من رسم أحدها ودعت قريبي الذي تخيلته بداخله اثنان وعشرون كفنًا، اثنتان وعشرون روحًا رحلت في ليلة وضحاها، تلك الأكفان ليست متشابهة كما ترى على الإطلاق، كل كفن منها يحتوي على قريب/ـة لـي.

 

عن (وفا)