فلسطين وآفاق التحول للإقتصاد المعرفي... "مستقبل فلسطين: أفق 2030"

فلسطين وآفاق التحول للإقتصاد المعرفي... "مستقبل فلسطين: أفق 2030"

ا.د. عماد عفيف الخطيب

رئيس اللجنة التحضيرية للمنتدى الوطني السادس "التحول نحو الإبداع"

في العام 1996 ظهر مصطلح "الإقتصاد المبني على المعرفة" من خلال "منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية" (OECD) التي عرفته بانه "الإقتصاد الذي يعتمد بشكل أساسي على إنتاج ونشر وإستخدام المعرفة بشكل فعال لتحقيق التنمية الاجتماعية والإقتصادية." دخل هذا المصطلح بقوة كنتيجة حتمية في سياق تسارع تأثيرات "عصر العولمة" (Globalization) الذي إرتبط بشكل وثيق بتسارع التطور في تكنولوجيات المعلومات والنقل، واللتان شهدتا خلال العقدين الماضيين تطوراً غير مسبوق في تاريخ البشرية منذ تسجيل براءة اختراع الهاتف مع نهاية القرن التاسع عشر بواسطة الإسكتلندي الكسندر جراهام بل، وقبلها في القرن الثامن عشر عندما سجل مواطنه الاسكتلندي جيمس واط براءة إختراع الآلة البخارية.

وقد صاحب هذه التطورات التكنولوجية إنتاجاً وتدفقاً غير مسبوق للمعلومات والمعرفة، وبموازاة هذا التطور بدأ "التنافس الاقتصادي" بين الدول يأخذ منحاً متسارعاً وقاسياً حيث لم تعد القدرة الصناعية والإنتاجيه هي مقياس القوة، بل القدرة على التنافس على الأسواق الإستهلاكية العالمية التي أصبحت بحكم العولمة أكثر إنفتاحاً وأكثر وعياً.

ولهذا فقد نشأت الشركات متعددة الجنسيات ومعها تدفقات رؤوس الأموال المباشرة التي خلقت فرصاً لتعزيز إقتصادات نامية يمكن أن تشكل "جغرافياً" منصة تنافسية عالمية بتخفيضها لتكاليف النقل والمواصلات والعمالة، التي يمكن تدريبها وتأهيلها. أن حركة التنافس الإقتصادي وفرت بيئة ممكنة لبعض من الكيانات النامية التي كانت مثقلة بالمشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية، كي تنقل نفسها من فئة الكيانات النامية إلى كيانات صاعدة ثم متقدمة، حيث أحسنت إستغلال مواردها الوطنية، وعلى رأسها "الرأسمال البشري." ولقد جعلت العولمة والثورة التكنولوجية "المعرفة" المحرك الرئيسي للقدرة التنافسية وأعادت تشكيل أنماط النمو والنشاط الاقتصادي في العالم بشكل عميق، فكان الإقتصاد المعرفي هو الاقتصاد الذي تكون فيه الأفكار والتقنيات "مكونات"، والملكية الفكرية هي "البضائع،" حيث يتوقع الزبائن حول العالم منتجات أكثر ذكاءً مع مزيد من الرفاهية.

أثر هذا التنافس الإقتصادي على إضمحلال المسافات الجغرافية على كوكب الأرض، ثم إضمحلال الدولة الوطنية (دون الإنتقاص من دور وأهمية المواطنة) أمام التجمعات الإقتصادية، وإنتقال وسيادة ثقافات جديدة، إعتبرها الكثير بأنها ثقافات دخيلة أدت لتحولات جذرية في العديد من الكيانات، ولكن الأثر الأهم كان سيطرة البحث والتطوير والإبتكار (R, D & I) كونهم الأدوات الأهم في بناء وتعزز القدرة الإقتصادية التنافسية. ولهذا فقد كان المستفيد الأكبر لحركة التنافس الإقتصادي هو التعليم بما يشمل التعليم العام والعالي والبحث العلمي، كون التعليم والبحث العلمي هما المنصة الأهم في إنتاج ونشر المعرفة التي تعزز القدرة على بناء "الإقتصاد المعرفي."

إن إدراك صانع القرار بأهمية بناء "الاقتصاد المعرفي" والمنافس من خلال التأسيس لتوفير بيئة اقتصادية ومؤسساتية وتنظيمية معززة لإنتاج رأس المال المعرفي وتطوير استخدامه، هو الخطوة الأولى والأهم في الإنتقال نحو قدرة إجتماعية- إقتصادية مبنية على المعرفة. ثم إن الإدراك أن تراكم رأس المال المعرفي هذا سيعزز من تطور القدرة التنافسية الإقتصادية والإجتماعية، هو ما يجب أن يكون في صلب سياسات وخطط التنمية الوطنية. ولا شك أن الأمثلة والشواهد عديدة أمامنا والتي فاق فيها تكوين "الثروة" من خلال إنتاج وإستخدام المعرفة والإبداع والإبتكار عن تكوين "الثروة" من خلال استخراج الموارد الطبيعية ومعالجتها وتسويقها، لأن المعرفة أضحت "سلعة" حيوية للكيانات والشركات والأفراد، ولا أدل على هذا من ما سببه تأثير جائحة كورونا عالمياً منذ نهاية العام 2019 وحتى يومنا هذا حيث خلق فرص هائلة لزيادة "ثروة" الكيانات المنتجة والمستخدمة والناشرة للمعلومات والمعرفة (بما فيها الشركات العملاقة) بقيم تجاوزت التريليونات من الدولارت.

أما السؤال: كيف يمكن التحول نحو "إقتصاد معرفي" يحقق الأهداف التنموية؟ فالجواب هو الشروع في  البناء على نقاط القوة والتخطيط بعناية للاستثمارات المناسبة في رأس المال البشري، وفي المؤسسات الفاعلة، وفي التكنولوجيات ذات الصلة، وفي تشجيع وتعزيز الشركات المبتكرة والتنافسية. أما الرأسمال البشري (الإنسان) فهو المورد الأساسي الذي يحتاج منحه القدرة والإمكانيات على التركيز للتطوير النوعي ورفع مستوى وكفاءة إنتاج المعرفة الموجهة، ثم أن ندرك أن تطوير تنافسية جميع قطاعات التنمية الإجتماعية والإقتصادية يعتمد على كثافة المعرفة الموجهة للإنشطة الإقتصادية وإرتباطها بالمعايير التنافسية العالمية، وعلى تعزيز بناء مجتمع المعرفة، الذي بات حقيقة في أيامنا هذه، مع تعدد منصات التواصل المعرفي. ولمن يسأل بعد هذا الجواب المباشر: طالماً أن التحول نحو إقتصاد المعرفة ممكن، فلماذا تباطأت العديد من الكيانات النامية في التحول نحو الإقتصاد المبني على المعرفة؟ فإن الجواب يرجع ببساطة لضعف المؤسسات، ومحدودية الوعي، والمثبطات التي تمنع تطوير وترسيخ جذور اقتصاد المعرفة.

أما "مستقبل فسطين: أفق 2030" فهو الوثيقة التي يتم إعداها في إطار تنظيم وعقد المنتدى الوطني السادس للمجلس الأعلى للإبداع والتميز والذي يعقد هذا العام تحت عنوان "الإنتقال نحو الإبداع" في كانون أول من العام الحالي. تمثل الوثيقة، التي يشارك في إعدادها خبراء من مختلف القطاعات الوطنية، خارطة طريق مدعمة بمؤشرات التحول نحو إقتصاد المعرفة لفلسطين. وستحوي خلفية هامة عن الإقتصاد المنافس المبني على المعرفة والإبتكار والذي أصبح تصنيفاً أساسياً ترتب على أساسه الكيانات في العالم من خلال مؤشرات أداء الإبتكار، والتنافسية، والتنمية البشرية، وغيرها من مؤشرات الأداء التي تعتبر الأساس المعرفي القابل للقياس والذي يمكن صانع القرار من تطوير الأهداف التنموية القابلة للتحقيق، ووضع الخطط الملائمة لها، وقياس نتائج تنفيذها.  

إن ركائز التنمية للإنتقال نحو الإقتصاد المعرفي أساسها الرأسمال البشري المتعلم وخاصة في الهندسة والعلوم الأساسية والتطبيقية، وهو يمثل لفلسطين "ثروة" غابت عن الكثير من الدول التي تمكنت من الإنتقال للإٌقتصاد المعرفي بعد عقود من الإستثمار في إعداد الرأسمال البشري المتعلم. وهذا الرأسمال هو مفتاح إنتاج المعرفة وإستخدامها. وفي الحالة الفلسطينية يلوم الكثير من صانعي القرار وغيرهم الجامعات على الإستمرار في تعليم الهندسة لأن نسبة البطالة بين خريجي الهندسة تتزايد، ويقترحون حلاً وقف القبول في التخصصات الهندسية، ويغيب عن هذا الكثير أن الدول المتقدمة تعتبر هذا النوع من الرأسمال البشري "أصول" وليست "تكلفة!" وخلال الأعوام الماضية تنافست العديد من الدول المتقدمة، أزاء شح مواردها البشرية من مهندسين وفنيين، "لإستيراد" هذه "الأصول" من دول نامية عديدة.

أما الركيزة الهامة الأخرى للتحول نحو إقتصاد المعرفة، فهي المؤسسات ذات الصلة بإنتاج المعرفة وإستخدامها في الإبتكار، وهي الجامعات والمعاهد ومراكز البحث والتطوير وحدائق التكنولوجيا ومراكز ريادة الأعمال وغيرها. وكلنا يعلم أن الجامعات والمعاهد الفلسطينية أسست بمجهودات كبيرة وبشق الأنفس أمام محاولات تجهيل الشباب وتحويلهم لقوى عاملة. أما في الإقتصاد المعرفي، فلا يمكن أن تؤدي الجامعات دورها الأكاديمي منعزلة عن الدور الأهم والمكمل وهو إنتاج المعرفة ونشرها من خلال نشاطات البحث العلمي والتطوير الهادف. وهذا لا يتأتى إلا بدعم وطني لا يقل، من أجل بناء إقتصاد معرفي، عن ما نسبته 2% من إجمالي الناتج المحلي، أي بلغة المال وقياساً للعام 2020، بما لأقل من 300 مليون دولار سنوياً (حسب جهاز الإحصاء المركزي فإن إجمالي الناتج المحلي للعام 2020 قدر بما يزيد عن 14 مليار دولار).

أما الركيزة الرابعة فهي المؤسسات الإقتصادية التي تسعى لتعزيز قدراتها التنافسية وفتح أسواق جديدة، إضافة للرأسمال الأجنبي الذي يسعى للمنافسة من خلال تدفق الإستثمار في كيانات لديها موارد بشرية ممكنة. وعلى صعيد القطاع الخاص الفلسطيني ورغم كل التحديات أستطاع هذا القطاع، وبالأخص الصناعي، ان يشكل حالة نجاح شهد لها العديد من الخبراء العالميين. ففي دراسة أعدت من قبل كاتب المقالة وبدعم من الإتحاد الأوروبي لقياس الإبتكار بإستخدام نموذج قياس الإبتكار المعتمد والمستخدم من "منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية"، تم قياس الإبتكار في قطاعات إقتصادية فلسطينية رائدة وهي الصناعات الغذائية، صناعات الحجر والرخام، صناعات البرامج الحاسوبية، وصناعات الأدوية. لقد كانت مخرجات الدراسة ملفتة للنظر ومفرحة حيث تبين أن ما يزيد عن 40% من مجمل المنشآت الإقتصادية التي تم إستهدافها في الدراسة هي مبتكرة، تماما كما هو الحال في العديد من الدول المتقدمة. أما المحزن في مخرجات الدراسة فيتمثل في أن نشاطات الإبتكار في مجملها "داخلية" ولا يتم نشر الإبتكار لسبب بسيط وهو غياب الدور التكاملي لمؤسسات إنتاج المعرفة، والتي على العكس منها تماماً في الكيانات الأخرى، تتكامل وتترابط فيما بينها لتحقق الإقتصاد المعرفي.

أما الركيزة التي تعتبر على قدر عال من الأهمية، فهي القطاع الحكومي ممثلاً بالمؤسسات المعنية والتي يعتبر دورها محورياً وأساسياً سواء في وضع السياسات التحفيزية، أو بناء الإستراتيجيات والخطط المرحلية، او توجيه الدعم للقطاعات التي تحقق الإنتقال نحو إقتصاد معرفي منافس، أو في تعزيز الركائز التنموية الوطنية. وفي الحالة الفلسطينية يبدوا أحياناً كثيرة أن أولويات التنمية الوطنية تتناثر من خلال إدارة المشهد السياسي، مما يؤثر سلباً على الركائز الوطنية الأخرى ويصبح مثبطاً لإمكانيات بناء إقتصاد معرفي. ولا يمكن أن تتكامل المنظومة الحيوية التي تمكن الإنتقال نحو إقتصاد مبني على المعرفة والإبتكار إلا بترسيخ أسس التكاملية بين مختلف الركائز، وفي قلبها الركيزة الوطنية الحاضنة وهي المجتمع الفلسطيني، الذي يجب أن ينعكس هذا الأنتقال إيجاباً على مكوناته.

ختاماً، فإن جهود المجلس الأعلى للإبداع والتميز خلال السنوات القليلة الماضية ورؤية المجلس ودعمها من قبل القيادة االفلسطينية، من المأمول أن تشكل بمخرجات "المنتدى الوطني السادس" فرصة لبناء حوار هادف وبناء نحو الإنتقال الممكن لإقتصاد معرفي وطني منافس.