تأملات وقراءة في قصيدة "مسافتي المقيدة"

تأملات وقراءة في قصيدة "مسافتي المقيدة"

تأملات وقراءة في قصيدة "مسافتي المقيدة"

تأملات وقراءة في قصيدة "مسافتي المقيدة"

   بقلم: د. مفيد عرقوب

من ديوان " إيكاروس" أو "في تدبير العتمة" للشاعر الكبير والناقد العميق والروائي المبدع رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور علاء عبد الهادي.

يقول فيها :

{مَسَافَتي الْمُطَوَّقَة}

 "فِي كُلِّ شَيءٍ، شِعْرٌ، لا يَكُفُّ عَنِ الصُّرَاخ، لَكِنَّنَا لانُحْسِنُ الإنْصَات"

كَمْ كُنْتِ تَمْتَسِكِينَ أَقنِعَةَ الْغِيَابِ تَجَمُّلاً، حِينًا، وَخَوْفًا مِنْ عُيُونِ النَّاسْ؟ عَيْنَاكِ عَيْنٌ رَاوَدَتْ شَبَقِي كَجِسْرٍ عَاطِلٍ سَيَظُنُّ أنَّ الْبُعْدَ يَعْنِي فَضَيلَةً، أُخْرَى تُنَادِينِي وَتَخْتَصِرُ الْحَنِينَ إِلَى الْيَقِين. 

صَدَأٌ عَلَى قَلْبـِي، وَهَذَا الْلَيْلُ يُشْعِلُهُ السُّؤالُ فَتَذْهَبُ السَّاعَاتُ.. وَاسَتْ غُرْفَتِي فِي الصَّمْتِ: صَبْرًا لِلصَّبَاحِ. رُبَّمَا ذَابَ الْهَوَاءُ الصَّلْدُ، بَيْنَ الضّفَتَيْنِ، ورُبَّما تَلِدُ الأُمُوسُ هُنَيْهَةً فِي الْعُمْرِ قَدْ تَهْدِي السِّنِين! لَكِنَّهَا.. إِنْ رَنَّ هَاتِفُهَا، سُتُغْلِقُ حِضْنَهَا، فَالْمَاءُ عَكَّرَ صَوْتَهُ، وَالنِّيلُ أَخْرَسُ لا يَرُدُّ تَحِيَّتِي، كَالشَّاشَةِ الْبَيْضَاءِ تُخْفِي رَسْمَهَا، 

لَكِنَّهَا تَغْفُو عَلَى أُفُقِي وهَاتِفُهَا الْعَطَش، فَلِأيِّ عُذْرٍ كَانَ هَذَا الخَفْقُ مِثْلَ الْبُرتُقَال.. الشَّوْقُ أزْرَقُ كَالسَّمَاء، وَالنِّيلُ نَعْتٌ وَاخْتِيَارِي الْعِشْقُ كَالسَّمَكِ الْمُلَوّنِ إنْ تَطَرَّفَ لَا يُمَيّزُ بَيْنَ صَوْتِ الْبَحْرِ أَوْ لَوْنِ السَّحَاب. 

كَمْ تَسْكُتِينَ فَجْأَةً، كَأَصَابِـِعِ الْحَلْوَى الْكَتُومْ، تَخْشِينَ عَيْنَ الْلَامِسِين، هَلْ نُعْلِنُ الْأَشْيَاءَ لِلْقَمَرِ الْبَعِيد. كَيْمَا يُغَنِّي فِي الْهَوَى وَصْلاً ثَوَى.. مَنْ ذَا يُؤازِرُنِي، وَأُمْنِيَتِي تَغِيب! هَذَا الْهُرُوبُ إليَّك مِنِّي يَقْتَفِي أَثَرِي يَحَارْ. تُلْقِينَ عَطْشًا فِي الشَّهِيقِ وَتَرْحَلِين، هَلْ كُنْتُ أَشْحُبُ كَالْغِنَاءْ، وَالْلَحْنُ يَغْمُضُ بالنَّشِيج؟ لَنْ تُطْفِئِي وَلَهِي بـِهَذَا الْمَاءِ، "نَأْ.. نَأَ.. ةُ" الطُّفُولَةِ قَدْ تُغَنِّي، قَدْ تُنَادِينِي بـِبَوْحٍ لا يُدَارِي أَمْرَهُ، 

فَالنِّيلُ مِثْلُ الصَّخْرِ يَمْتَسِكُ الْغَوَايَةَ فِي ثِيَابِ الْمَاءِ قَامَ، الْمَوْجِ فَنُّ الْمَاءِ لا يَهْوِي إِنِ اِضْطَرَمَ الْكَلامُ عَلَى الْكَلام! لَوْ أنَّ لِي قَلْبَيْنِ كَالْأَضْدَادِ أَشْجُو، رُبَّمَا أَشْرِي عَلَى الرَّهَوَاتِ حِسًّا بالْهُجُودْ، أَوْ رُبَّمَا، خَفْقًا مُرِيحًا لا يَدُوم.

قَدْ صِرْتِ فِي عَيْنَيَّ نَجْمًا، يَجْتَوِي لا يَحْتَوِي، رُدّي عَلَيَّ مَسَافَتِي، أَوْ كَسَّرِي قَيْدَ الْيَمَامِ وَمَا تَيَسَّرَ، كَيْ تَلُوصَ عُيُونُنَا.. كَالْحَرْفِ يَصْبُو.. كَالْكَلام. هَذَا اِبْنُ حَزْمٍ يَرْتَجـِي وَلَهًا، وَلَمْ تُعْطِيهِ فَوْقَ مُلَاءَتِي الْبَيْضَاءِ أَسْرَارَ الْعَرَافَة. هَذَا "الْمُحَلَّى" يَنْتَوِي قُرْبًا، وَلَمْ تُعْطِيهِ غَيْرَ تَحَفُّظٍ فِي الْقَوْلِ، أَوْ طَوْقَ الْمَسَافَة. 

وَالحُبُّ يَهْتَبـِلُ الشَّهِيقَ كَمَا يَشَاءْ، وَأنَا الْهَوِيُّ، العِشْقُ إِثْمُ مَشَاعِرِي، وَمَشَاعَرِي كَالطِّفْلِ- كَامِلَةٌ، تَمُدُّ الخَيْرَ مِنْ قَدَمِ الحُفَاةِ الجَائِعِينَ، وَلا تَخُون. لا تَسْتَقِيمُ عَلَى الْكَرَاهَةِ إِنْ أَحَبَّت. وَالْخَطْوُ خَلْفَ النَّاسِ يَنْتَظِرُ الطَّرِيق، لا تَقْرَئِي زَبَدِي، أَنَا مِثْلُ الْمَسَافَةِ نَافِعٌ فِي الأَرْضِ حِينًا، رُبَّمَا، لَكِنَّنَا لَا نَرْتَجـِي مِنْهَا الْبَقَاء. 

هَلْ مَنْ يُعَلِّمُهَا: الْمَسَافَةَ لا تُطَوَّقُ كالغُبَارْ؟ بَلْ قَدْ تَجـِفُّ، وَقَدْ تَهِيمُ، هِيَ الْيَمَامُ الْحُرُّ، قَدْ يَحْنُو، يَحُطُّ عَلَى دَمِي، أَوْ يَشْتَهِي خَبْطَ السَّحَاب. لِتُطَوّقِينِي إِنْ أرَدْتِ تَطَرُّفًا، لِتُطَوْقِيهَا إِنْ أرَدْتِ تَحَفُّظًا، أَنَا لا أُبَالِي كَيْفَ طَوَّقْتِ الْحَنِينَ، مُقَدَّرٌ كَالأَنْبـِيَاء. 

هَذَا أنَا، وَالنِّيلُ فِي سَيّارَتِي يَحْنُو عَلَيّ، قَدْ ثبَّتَ الأَحْوَالَ فَوْقَ الْعَيْنِ؟ يَسْقِيهَا نِدَاهْ. وَيَدَاكِ تَعْزِفُ فِي يَدَيّ رَحِيقَهَا المَكْتُومَ، أسْرَارَ النَّوَى! كَانَتْ يَدِي مِنْ بَيْنِ كَفَّيْكِ تَبُوحْ، تَحْكِي كَمَا تَحْكِي الْحُرُوفُ الْمُتْعَبَة. 

هَذِي الْحَيَاةُ تُوَدّعُ الْأَحْبَابَ بَاكِيَةً، وتَرسُمُهَا السَّمَاوَاتُ عَلَى الأُفْقِ هَوًى، عَصْفًا عَلَى رِئَةِ الْهَوَاءْ، مُتَرَبِّصًا، لا يَهْتَدِي، فيروزُ مِنْ شَادِي تَبُوحُ، الْآنَ، بَعْدَ الضَّيْفِ، فَيْرُوزٌ تُغَنِّي لِلْغِيَاب. 

وَالقَلْبُ مَأْجُورٌ يُسَاوِمُهُ الْتَعَب. 

فَالنِّيلُ قَدْ يَمْتَدُّ فِي الصَّحْرَاءِ يُشْعِلُهُ الْمَدَى، وَالنِّيلُ لا يَخْشَى الْمَسَافَاتِ/ الْبِعَاد. 

النّيلُ رَقْرَاقٌ كَبـِئْرٍ تَنْقَضِي عَطَشًا، وَيَكْشِفُهَا الْعَطَش!

إلى هنا انتهت القصيدة 

كنت اتمنى التعرف عليه عن قرب ، فشاءت الأقدار أن أحِلَّ عليه ضيفاً في معية صديقي النفيس مراد السوداني رئيس اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين الشاعر الكبير مراد السوداني وبرفقة الأصدقاء: الشاعر والروائي الجميل سليم النفار، والروائي الرائع النبيل ناجي الناجي .

وما أن دخلنا مكتبه بالقاهرة حتى وجدنا أنفسنا أمام قلب طيب في صدر نبيل، شاعر الفطنة والموهبة، لطيف الذات، حسن الصفات، غزير الأدب، رجل ودود تحول بسرعة إلى صديق حميم بود قديم. حينها تيقنت أن مَن في منزلة هذا الرجل علماً وأدباً ووطنية صادقة وموهبة استثنائية لجدير بحمل لقب رئيس اتحاد الكتاب العرب بجدارة واقتدار، بما أتاه الله من عقل حصيف، وقلب عفيف، ولسان نظيف .

وما أن قرأت قصيدته "مسافتي" المنشورة على صفحته حتى وجدت نفسي مدعوا إلى طبق شعري شهي غني بأطايب التشبيهات، يطفح بالحلوى المجازية، وكرز البيان، ونفائس الكنايات والاستعارات .

لقد وجدت أطايب البلاغة تحيط بقصيدته إحاطة السوار بالمعصم ، ابتداءً من عنوانها ومفتتحها وانتهاء بقُفلتها ومن جميع أقطارها.

والقصيدة تنماز بحسن بنائها، ووقار لفظها، وبعد مراميها، وضيق مبانيها، وزخات غيم معانيها، وحلاوة سبكها، وطلاوة حبكها، وجمال صورها، وجموح خيالها، وجنوح مجازها، وانفلات صيغ استعاراتها، ومقابلاتها البلاغية البديعة .

ولا أخالني مبالغا إن قلت: إن البلاغة في هذه القصيدة قد ارتدت أبهى حللها، ولبست أنفس مصاغها.

والقصيدة هي عين قلادة الديوان، ودرة تاجه .

ولا بد لنا قبل الولوج إلى رحاب نصها، من الوقوف عند عنوان الديوان التي انتمت إليه هذه القصيدة؛ فالعنوان هو فاكهة النص، أو لنقل هو أول قطفة الموسم، وقد اعتنى به الشاعر جيداً؛ لأن فيه انبعاث وجداني وتحفيزي، وفيه إغراء القَصّ القديم ؛ لاستدراج المتلقي بجذبه وتوريطه للاتصال بالنص. 

وما من شك أن الديوان فيه إضافة نوعية تثري المشهد الشعري العربي. 

 ديوان "إيكاروس" أو في "تدبير العتمة":

وإيكاروس هو المتيم بالشمس، ومن شدة ولهه بها، صنع لنفسه جناحين ثبتهما بالشمع ليساعداه في الطيران إليها، وتقول الأسطورة أنه كلما حاول الاقتراب منها نهنهته حرارتها، فبدأ الشمع يذوب عنه رويداً رويداً .

ولعل الشمس في الأسطورة هنا تمثل الحقيقة .

كما أن الوصول إلى الشمس يعد ضربا من المستحيل حتى يومنا هذا .

وبهذا المعنى نفترض أن عنوان هذا الديوان الشعري ما هو إلا محاولة مجازية مستميتة استعانت بالرمز الأسطوري، فأتت بإيكاروسها الخاص بها لتطرق باب المستحيل المستحكم العَصِيِّ على الفتح، فليس سوى المجاز المحمول على الرمز الأسطوري بقادر على اقتحام الأهوال، ودق هذا الحصن الحصين، وخلخلة جداره السميك؛ لمعرفة ما استغلق علينا فهمه من غامض الشمس، صعدا نحو بلاغتها، ووقدة ضيائها ، ومركز بهائها

فإرادة التحدي جعلت من هذا الطائر بطلا إيكاروسيا يشف طريقه نحو السماء، دافعا ضبابها بقوادمه، قادرا على مناوشة عقبان السماء للوصول إلى أعماق الشمس والدخول إلى لجة اسرارها، والولوج إلى سراديب مجاهيلها المستغلقة على الفهم، غير عابىء بشررها وشهبها ولهيب نارها الحرور، فصعد تصاعد البخور، في خفة العصفور، ناشدا الاستقرار في خدر عرشها، وقاصدا التعرف على كنه مملكتها، ولواء رفعتها، وجبروت طغيانها، بغية الوصول إلى بهجة الوجود وقنطرة الضياء، وملكوت المعنى.

ونرى الشاعر المتمرد يلجأ إلى مناورات لغوية ومرموزات أسطورية، وابتكارات مجازية بغية الوصول إلى المشهد الشعري المؤثر الشاحذ للهمم، المستنهض للعزائم. وبهذا المعنى فهو عنوان تعبوي بامتياز يأخذنا إلى ملاذ أسطوري يحاول من خلاله الإعلان عن ثورته وتمرده ومشاكساته؛ للإفلات من فخ المباشرة، والهروب من التصريح إلى التلميح، فلرب إشارة خير من تفاصيل العبارة، والتلميح أبلغ من التصريح. 

إذن فكرته تقوم على بعث النخوة في النفوس ، وإيقاظ الشهامة في الرؤوس، توقا وشوقا، وحثها على استكشاف ومضة الإشراق، ولمعة النور في الآفاق؛ ليؤنس وحشة النفس، ويبهج القلب الحزين .

إن هذه الرحلة الشمسية تحمل في طياتها الأمل، وومضة النور، وهو ما تحتاج إليه الأمة في هذه الأوقات العصيبة .

وهكذا ففي العنوان دعوة إلى إطلاق العقول الأسيرة، وإنعاش النفوس الحسيرة، وتذكية القرائح الكابية. وفيه ضخ معنوي، وشحذ قوي ، للنفوس التي تلكأت عن همة المغامرة ، وقعدت عن عزم المجازفة.

ولا شك أن الفكرة المتولدة من هذا العنوان تنتمي إلى علم اللا ورائي الذي لا يخضع للمنطق ولا للمدركات، ولعلها تنتمي إلى ما يطلق عليه اسم الفرينولوجي؛ أي: علم فراسة الدماغ .

وعلى صعيد الذات الشاعرة المتمردة ، فقد وَجَدَت في المغامرة نحو الشمس كفاية لعقلها الرغيب، ورضى لنفسها الطامحة .

دعونا ننتقل الآن إلى القصيدة التي استهلها الشاعر بقوله :

"في كل شيء شعر لا يكف عن الصراخ، لكننا لا نحسن الإنصات".

فالشاعر منذ البداية يكشف عن عقيدته الشعرية، ويفصح عن فلسفته الجمالية، وهي نظرة حديثة لماهية الشعر مفادها أن الشعر مُسْتَكِنٌّ في كل الأشياء من حولنا، فأينما وليتَ وجهَك، ويَمَّمْتَ شطرَك، سمعتَ هذا الشعر، فقط ما عليك إلا أن تتقن حسن الإصغاء. فكأني به يقول: إن حياتنا شعر، وكل ما حولنا شعر .

وهو بهذه النظرة لماهية الشعر إنما يُسْقط مقولة أن الشعر من فعل الإنسان، ويقول: قفوا لا تضيقوا الخناق على هذا الكائن الجمالي الذي يكمن في كل شيء من حولنا، وإن الطبيعة هي الشاعر الأكبر، وهي المصدر الأول لإبداعات الفنان والشاعر والأديب؛ ذلك لأنها مخزن الجماليات الوديعة الهادئة الأخاذة الساحرة، وهي منبع الإلهام بالنسبة للأديب والشاعر والفنان ، ولولاها لَما تفتحت المواهب ، ولَما تولد الإبداع ، ولا تدفقت المعاني والأفكار ؛ ولهذا فهي صاحبة الشعر الأبقى والأنقى والأصفى والأثرى والأسنى والأبهى ، شريطة أن تصغي جيدا إليها.

بيد أن الصراخ الوارد في هذه المقطوعة، لا يعني الصراخ بمعناه المعجمي، فهو صراخ مجازي، يدل على إثبات وجود الصوت الشعري ، فلا يُلْقى الشعر صراخا على وجه الحقيقة، غير أن دخول الشاعر أرض الاستعارة المكنية من خلال التشخيص، أصبح الأمر ممكنا ، فقد وهب للجمادات من الأشياء عواطف آدمية ، وخلجات إنسانية، فصيَّر كل شيء من حولنا كائنا حيا يصرخ شعرا، وبناء على ذلك يصبح الصراخ أكثر عمقا وجمالا وبهاء في هدوء عناصر الطبيعة .

وعليه فإن هذه المقطوعة تحاكي عنوان قصيدته وتشاكسها ، وتحاول فك إسارها لتنطلق إلى فضاء الشعر الوسيع ، ولعل وراء ذلك خيال عبقري جامح جانح لا يصدر إلا عن شاعر مقتدر ، وعقل وقاد وهّاج ، وموهبة قلما نجدها عند شعرائنا. 

وقد تنبه "كانط" إلى هذه العبقرية بوصفها موهبة لا تنفصل عن الخيال بقوله :"إن الفن الجميل لا يكون ممكنا إلا بوصفه نتاجا للعبقرية" .

ومهما يكن فإذا أمعنا التأمل في رحاب النص الشعري نجد أنفسنا أمام بعض الظواهر واللطائف البلاغية الجمالية أهمها :

اولا: المرموزات، ولما كان الرمز هو الركن الركين، والبناء المتين، الذي يقوم عليه الديوان ، إذ إن رأسَ الديوان رمزٌ ، فلا غرابة إذن أن يحتل مكانة هامة في قصيدته "مسافتي المقيدة"، وليس سوى الرمز بقادر على الخروج من إسار التقليد الضيق إلى رحاب الحرية الرحب .

فنرى الرمز يحتشد في قوله: " ....هذا ابن حزم يرتجي وَلَهًا، هذا (المحلّى) ينتوي قربا ولم تعطِهِ غير تحفظ في القول، أو طوق المسافة". انتهى الاقتباس .

ففي هذه المقطوعة استدراج لرمز ابن حزم، واستدعاء لأشهر كتبه وهو "المحلى"، وتمام اسمه: المحلّى في شرح المجلّى، كما يلحظ في النص إشارة خفية إلى كتابه الآخر " طوق الحمامة" في قوله: " هذا ابن حزم يرتجي وَلَهًا"، والوله واحد من مواضيع كتابه الأساسية. ولعل في قوله أيضا: "طوق المسافة" فيه تناص مع كتابه المذكور "طوق الحمامة".

ثم نراه يواصل الغَرْفَ من معين الرمز، باستدعاء رمز الموروث الغنائي في صوت فيروز ؛ مما أضفى على القصيدة سحر العراقة والأصالة، فزادها جمالا وبهاء وجلالا .

وبهذا يظل الرمز غرة شادخة في جبين هذا الديوان وجبين هذه القصيدة تجلله وتجمله وتمنحه جمالا وجلالا .

ثانيا: المجاز والاستعارات والمقابلات البلاغية البديعة .

إن المجاز في هذه القصيدة غريب عجيب متمرد عن سياقاته ، منفلت من عقاله، محاط بجلال الرمز ، يصعب على الناقد الإمساك به ، والقبض على مدلولاته ، فما يكاد الاقتراب منه إلا وينفلت من بين مباضعه النقدية انفلات حبات الرُّمَّان من بين الأصابع المرتعشة، ولعل بلاغة المشاهد الفنية والجمالية المتولدة من هذا المجاز متشعبة متداخلة ، لكنها في ذات الوقت دقيقة رقيقة ، وحقا ما قيل : كلما كان التشبيه مخفيا وأدق، كان أبلغ وأرق. 

يقول الشاعر: "عيناكِ: عين راودت ستبقى كجسر عاطل، سيظن أن البعد فضيلة

وأخرى تختصر الحنين إلى اليقين" .

يا لجمال التصوير الأنيق لمعنى العشق! ويا لسحر هذا التداخل العجيب بين الفنون البلاغية! ففي المقطوعة عَقَدَ مقابلة بلاغية بديعة بين عينين: واحدة تنشد الهجران والبعد، وأخرى تبغي الاقتراب والقرب، ثم في المقطوعة أيضا استعارتان مكنيتان حين شبه العينين بإنسانين حاذفا المشبه به من كلتيهما، مبقيا بعض صفاته، فمن الأُولى المراودة بقوله (راودت)، ومن الأخرى النداء بقوله (تناديني) .

وفي المقطوعة تشبيه العين الأولى بالجسر العاطل . وفيها استعارة أخرى أيضا ؛ ففي قوله : "سيظن أن البعد يعني الفضيلة" ، فالجسر العاطل لا يظن على وجه الحقيقة ، لكن الشاعر أنسنه وأسبغ عليه الحياة بأسلوبه الاستعاري الأنيق. 

كما تحتشد في هذه المقطوعة أيضا الكناية ؛ ففي قوله : "الجسر العاطل" كناية عن استحالة الوصل بالحبيب ، كما في قوله: "تختصر الحنين إلى اليقين" كناية أخرى عن إمكانية الوصل والقرب.

وهكذا التحمت الأجناس البلاغية في هذه المقطوعة، التي قوامها بضع كلمات، التحام الروح بالجسد، ثم تظافرت مع بعضها وَوُظِّفت لتعطي معنى الوَجْد الذي أراده الشاعر، ذلك أن الوجد عنده إنما هو وصل وهجر واهتياج وغربة ، والعشق هو في اجتماع هذه المتناقضات التي تقض مضاجع أهل المحبة وتدمي أفئدتهم .

وبهذا أصبح الشاعر المحزون متأرجحا بين أمل اللقاء، وهجر الأحبة الذين حطموا الجسور ، كأنه ساقط بين فراشين ، لا هو نائم على هذا ، ولا هو مرتاح على ذاك .

ويواصل الشاعر قصيدته مستخدما ألوانا شتى من الفنون البلاغية ؛ فتارة تجوس قدمه أرض الاستعارات لتبعث الحياة في الجمادات الخُرْس فتُؤَنْسِنها وتحوّلها إلى أحياء ناطقة ، وتارة تجعل غير المحسوس محسوسا، ثم تارة تدخل حقل الكنايات، وتارة أخرى تتكىء على الرمز، وأخرى تجري المقابلات البديعة. 

القصيدة غنية ثرية نفيسة بحجم موسم غلة بعد يباب، مُحْكَمَةُ البناء، شُيِّدت على يد مهندس، فرجاره دقيق، يتخير مواطن الجمال، قادر على الكشف عن بواطنه، ما جعل النص برمّته يشي بكل ما هو أخاذ وجميل وجليل وبديع .

قصيدة تستحق أن تعزف لها الورود زهورها، وأن ينصب الربيع أوتاد خيمته بين سطورها .

احترامي لك نصا وشخصا وقلما وإبداعا وتجديدا، ودع حرفي ينحني أمام سماحة حرفكم الأجل، ففي حضرتكم ترتدي كل الحروف بزة الربيع .

 رام الله- فلسطين

 

 

 
 
 

Share:


آخر الأخبار